العدد 5348 - الجمعة 28 أبريل 2017م الموافق 02 شعبان 1438هـ

قصة قصيرة... الغرباء

أحمد أبو إسماعيل - قاص سوري مقيم في الجزائر 

تحديث: 12 مايو 2017

 

أتذكّر قبل اندلاع هذه الحرب المجنونة وقبل أن يطال الدمار البشر والحجارة، كان يحلو لتلك الشقراء أن تتسرب مع النسيم القادم من الغرب إلى الشرق لتحط رحالها على ثرى الشام، لا أعرف ما هو السر الذي جعلها تكتب أجمل أشعارها وخواطرها في أزقة دمشق القديمة، وجعلني القدر شاهداً على ولادة تلك القصائد لأني كنت أرافقها دائماً في كل زيارة، فلقد كانت لغتها العربية تتعثر على شفاهها الرقيقة المائلة إلى الحمرة، فكنت بمثابة البوصلة لها في كل مرة أرادت أن تتجول في الرواقات الدمشقية، أتذكرها وكأنني الأن أراها بكل التفاصيل... شعرها الأشقر الذي انسدل بعفوية الشرق على كتفيها وعيناها اللتان رواهما النيل المصري، قوامها المنحوت بفعل الخالق وكأنه أراد لها أن تكون "فينوس" الثانية.

تحمل تلك الكاميرة مثلما تحتضن طفلاً، ولا تهدأ فلا تراها إلا مثل موج البحر بين مد وجزر. كانت تتلعثم بالدارجة السورية كثيراً وتستعصي عليها كثير من المفردات إلا أن عفوية أهل الشام كانت هي الخالدة في ذاكرتها، فكلما حاولت التحدث بمفردها إلى أحد الباعة الذين كان يطوفون العاصمة ليل نهار كانت ترتبك وتتفتح على وجنتيها وردتان من شقائق النعمان فيرد البائع عليها بما التقطت مسامعه من اللغة اللاتينية وينطقها بشكل يوحي في ظاهره أنه فهم طلبها علماً أن إجابته لا تتقاطع مع سؤالها إلا بتلك اللوحة التي استمدت حضارتين في فضاء دمشقي واحد.

كانت تعتقل كل لحظة جميلة للشام بصورة تذكارية فلم تدع الشروق إلا وألحقته بالغروب ولا ساحة الأمويين إلا وتبدت معالم الشاغور والصالحية في صورة أخرى دون أن تغفل عن التقاط صورة لكأس الشاي الذي اعتلى طاولة من الخشب المُعتق في مقهى "النوفرة".
لا تلبث أن تنظر إليّ بشيء من الامتنان وكأنني أدخلتها الجنة علماً بأنني أشعر في رفقتها بشيء من السذاجة، لا أعرف ما هو الذي يلفت نظرها إلى بائع "الفول" الذي تقوّس ظهره وهو يدفع تلك العربة الكئيبة التي استمدت كثيراً من شقائه في الحياة، ولا يمكنني أن أعلم ما هو السر في مذاق "غزل البنات" الذي اعتدت أن أشرب الماء بعده لأنه كان يشعرني بالعطش أما هي فكانت تجد في تفاصيلنا الحزينة جداً مصدراً لسعادتها.

كانت تحب أن تنخرط في حافلات النقل العمومي وتزج بجسدها البض بين فيض الركاب من الموظفين الذين أعياهم طول النهار في الصيف وأجهد أجسادهم طول المكوث في الحافلة وتبدت معالم الإرهاق على محياهم، أما هي فمثل فراشة في حقل ليس فيه إلا بقايا حريق كبير.
هل تلك الحجارة المرصوفة في دمشق القديمة أهم من أولئك العابرين فوق ظهرها؟ وهل تلك البيوت التي اتسع صدرها للزائرين من كل فج عميق جميلة حقاً؟

لا أعرف الإجابة حاولت مرة أن أقنع نفسي بأن اعتيادي على تلك التفاصيل منح مشاعري نوعاً من التبلد اتجاهها إلا أني لم أقتنع، فالقصة ليست بالاعتياد على المشاهد وإنما الاعتياد على الخيبة التي هي أشبه بهالة تحيط بتلك المشاهد التي لا يتسنى لتلك الشقراء أن تلحظها أبداً.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً