العدد 5354 - الخميس 04 مايو 2017م الموافق 08 شعبان 1438هـ

أيُّ فصل للدين عن السياسة؟

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

من أكثر الشعارات طرحاً في أيامنا الحالية شعار فصل الدين عن السياسة. وبالطبع فإن وراء هذا الطرح المتعاظم ما فعله الجنون الجهادي التكفيري بالمجتمعات العربية والإسلامية من تشابك الدين بالسياسة في أسوأ وأخطر صوره.

لكن طرح هذا الشعار سيحتاج إلى توضيحات وإلى بناء نظري متماسك مقبول من غالبية الناس، وإلا فإنه سيعالج صراعات سياسية عبثية خطرة بإدخال العرب والمسلمين في متاهات وصراعات فكرية وثقافية أخطر من تلك التي يعالج.

من البداية دعنا نستذكر أن علاقة الدين بالسياسة لم تحسم بعد، حتى في الدول الديمقراطية العريقة. وكتوضيح لذلك لنأخذ الولايات المتحدة الأميركية كمثل. هنا سنأتي بموقفين متواجهين من قبل شخصيتين أميركيتين شهيرتين.

ففي الستينيات من القرن الماضي رشح جون كندي نفسه لخوض انتخابات رئاسة الدولة الأميركية. ولأنه كان كاثوليكياً طرح الكثيرون عليه هذا السؤال بقوة وإصرار:

هل ستؤثر قناعاتك الدينية الشخصية بشأن بعض القضايا، من مثل موضوعي الإجهاض والزواج المثلي، على مواقفك وقراراتك كرئيس للجمهورية؟ في خطاب طويل شهير أجاب بالنفي التام وبأن القناعات الدينية لكل الناس يجب أن تبقى بعيدة عن المناقشات السياسية العامة.

لكن، بعد نحو خمسين سنة، عندما طرح السؤال نفسه على باراك أوباما، قبل وبعد نجاحه في الانتخابات، كان الجواب مختلفا. لقد استشعر أوباما التوق الروحي، وبالتالي الديني، في أعداد هائلة من المواطنين الأميركيين، هذا التوق الذي يحتاج أن يعبر عن نفسه كجزء من الصوت السياسي.

قال الرئيس أوباما إنه يشعر أن صخب الحياة الأميركية اليومية، من بدون قيم أخلاقية روحية ومن دون أهداف غير مادية وحسية، تجعل حياة الأميركي خاوية. ولذا فمن واجب التقدميين، الذين يطرح بعضهم حيادية الدولة في الشئون التي تعارف عليها الناس بأنها قيمية وأخلاقية، يجب ألا يتجاهلوا «الخطاب الديني»، بل وعليهم أن يتعاملوا مع هذا الحقل برفق وزمالة.

لم يكن ذلك الطرح شعارياً انتهازياً، بل كان طرحاً فكرياً سياسياً. ذلك أن طرح موضوع القيم والفضيلة في الحياة السياسية يؤدي في الحال إلى طرح موضوع العدالة والصالح العام في حياة المجتمعات والبشر.

إضافة إلى ذلك فهذا الطرح من قبل أوباما يشكك في صواب مدرسة «الحيادية الليبرالية» التي تنادي بإعطاء الحرية الكاملة للفرد لكي يختار، هو وحده فقط بمن دون رقيب أو حسيب، ما يعتقد أنه صالح له ومفيد لحياته. إنه طرح يرفض أقوال المدرسة الفلسفية النفعية، التي تقول إن كل ما هو نافع للفرد فهو عادل حتى ولوكان على حساب الآخرين والمجتمعات والبيئة، أي الفردية المطلقة في أقصى جموحها.

والواقع أن الحديث هنا عن القيم والأخلاق الروحية لا يقتصر على السياسة فقط، بل يتعداه إلى حقل الاقتصاد. إنه رد على الفلسفة الرأسمالية النيوليبرالية المنادية بالحرية التامة، غير المنقوصة وغير المنضبطة من قبل تدخلات الدولة، للأسواق. مثل الفردية المطلقة يجب أن تكون السوق. كلاهما أحرار فيما يقررانه، باطلاً أو حقاً أو عادلاً.

وبالطبع فإن هكذا سياسة وهكذا اقتصاد سيؤديان إلى حياة الغاب، حيث القوي يأكل الضعيف، وإلى غياب تام لمبدأ الصالح العام. ولذلك تجري نقاشات طويلة ومعقدة بشأن هذا الموضوع سواء في اجتماعات الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، أو في الدوائر الأكاديمية. فانعكاسات أخذ وجهة النظر هذه أو تلك ستكون هائلة على حياة الأنسان العادي.

إذا كان مثل هذا الموضوع لايزال في طور الأخذ والرد في مجتمع استقر فيه النظام الديمقراطي إلى حد كبير، فكيف بمحاولة الوصول إلى نتائج حاسمة في مجتمع عربي لايزال يحبو في انتقاله إلى الديمقراطية؟

نحن نشير إلى ذلك لجلب الانتباه إلى ضرورة درس الموضوع دراسة معمقة، بعيدة عن الغضب العارم الذي يجتاح الوطن العربي من جراء الممارسات الوحشية للجماعات الجهادية التكفيرية، لتحدد معاني الكلمات المطروحة، وتأخذ بعين الاعتبار التاريخ والثقافة والتوق الروحي الإنساني، وتنقل المجتمعات العربية إلى عوالم المشترك المواطني والإنساني التضامني، وتتعلم من تجارب الآخرين، وتهدف في النهاية إلى عالم يسود فيه العدل والمساواة، وتتوازن فيه الحقوق والمسئوليات، ويتناغم الرباني مع البشري.

إنها مهمة صعبة ومعقدة، ولكنها ضرورية ونحتاج إلى حملها ومواجهتها بأمانة وصلابة.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 5354 - الخميس 04 مايو 2017م الموافق 08 شعبان 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 24 | 2:59 ص

      شكراً جزيلاً دكتور على هذه اللفتة الصريحة و القوية لكل شخص في هذا البلد الذي ينجر نحو الهاوية، لابد لنا من تحقيق موازين يتفق عليها جميع المواطنين بممثليهم لنتخطى هذه الأزمة التي عصفت بالبلد بسبب تعنت الكثير من الأطراف، الجلوس على طاولة و حل المشكل أولاً بعدها نتكلم عن طريقة يتفق عليها كل الأطراف أما أحادية القرار في هذا الإنفتاح على كل العالم لن يجدي نفعاً، أتمنى أن يواصل قلمكم الحر في نسر هكذا ثقافة لكل البحرينيين.

    • زائر 20 | 7:59 ص

      سلمت وسلم يراعك يا دكتور .. مقال جيد ينطق عن عقل وحكمة وخبرة.. بعيد عن المراهقة الفكرية لكثير من المثقفين

    • زائر 15 | 6:06 ص

      أصبحت اليوم المشكلة ليست مشكلة لحية او مسمى إسلامي او غيره ، المشكلة اليوم مشكلة اختفاء الضمير بمعنى الذي ليس من جماعتي او طائفتي ليذهب إلى الجحيم يسجن او يطرد او يقتل ليس مهم حتى ولو كان شريك لي في الوطن .

    • زائر 14 | 5:47 ص

      لا توجد مشكلة أين هي إدارة الدولة الحكيمة والمنصفة والعدالة أمامك عشرات من الدول الغير اسلامية والتجارب المخيبة للآمال ينتشر فيها الجوع والفقر والتمييز الطائفي والحزبية الفئوية والظلم و القانون يطبق على فئة او طائفة دون أخرى ؟

    • زائر 13 | 4:53 ص

      الدين شأن خاص بين العبد و ربه بينما السياسة و الاقتصاد هما شأن عام يهم كل المواطنين..............

    • زائر 12 | 4:35 ص

      هذا الجدل قائم منذ القدم والواقع يثبت بالدليل القاطع ان الدولة المدنية وفصل المؤسسات الدينية عنها هو الحل الأمثل ، كلكم تدرسون وتتعالجون وتصيفون عندهم ، الدين لله والوطن للجميع ، والمشكلة عندنا أربعين فرقة مومتفقين ويقال بس فرقة على صح مب عارفينها.

    • زائر 11 | 3:30 ص

      لدينا أمثلة وشواهد ناجحة ومتقدمة اتخذت الدين والعلم والضمير وكل القيم السامية التي يتكون منها الدين الإسلامي الحنيف دول و جمهوريات ناجحة ، لماذا نذهب بعيدا للمشروع الفاشل لدولة داعش مثلا .

    • زائر 10 | 3:27 ص

      افضل ان تكون الدولة دولة ... محايدة لا تلتزم بالدين ولا تحاربه ولا تنكره، بل تترك أمره للمواطنين يختارون ما شاؤوا من عقائد، ويلتزمون بما يريدون من قِيَم، ويمارسون ما يروق لهم من عبادات.

    • زائر 9 | 2:44 ص

      لن نتقدم قيد أنمله الا ...... من التدخل في حياتنا و السياسة و الشأن العام لن نتخلص من قيود العصور الوسطى الا بعد ذلك سيبقى المتجمع منقسم طائفياً بسبب تدخلهم في السياسة ................

    • زائر 7 | 2:32 ص

      الكثير كان يردد بقيام دولة مدنية وهو في الواقع يطالب بدولة اسلامية
      انه النفاق الذي جعل منهم يرددون غير ما يريدون لاستمالة الجميع لهم

    • زائر 6 | 2:30 ص

      نعم لفصل الدين عن السياسية
      الدين حرية شخصية في اختيار الفرد لعقيدته
      اما الوطن يحضن جميع ابنائه بمختلف دياناتهم ومذاهبهم وافكارهم

    • زائر 5 | 1:35 ص

      فصل الدولة ليس عن الدين وإنما فصل المؤسسات الدينية عن الدولة ، بمعنى لا يستغل المنبر الديني في المصالح السياسية وتسخيره لاشعال الطائفية والتعصب والشتم والتكفير والتهجم على الآخرين ، وإقامة دولة القانون التي يخضع لها الجميع بدون تمييز ، هذا ما يطرحه الع...وشوف الدول بهذه الأنظمة مثل ماليزيا وأوروبا اللي نبعث ابنائنا ونصيف فيها وشوف الباقي الأنظمة الثيوقراطية . الواقع يتحدث وهو شاخصا أمامك يادكتور، يكفينا مجاملات فالاسلام السياسي هدفه السيطرة على الدولة.

    • زائر 3 | 12:33 ص

      لدينا يطالبون بفصل الدين عن السياسة فقط لأنهم يريدون الإبتعاد عن ما يمثله الدين من قيم و ما يطالب به الدين و رجالاته الحقيقيين من بسط للعدل و إنصاف المجتمع و الإبتعاد عن الظلم ......

    • زائر 2 | 12:24 ص

      (لايزال يحبو في انتقاله إلى الديمقراطية؟) صدقت يا دكتور بل أقول لك ان مجتمعنا لا يحبو بل يخطو خطوة للأمام وعشر خطوات للخلف وهناك تعمّد لإرجاع المجتمع للجاهلية

    • زائر 1 | 11:58 م

      البشرية تحاول عبثا الهروب من الله وهل يمكن الهروب من الله إلاّ إليه.

    • زائر 23 زائر 1 | 4:06 م

      فالدين متغلغل في كل حياتنا ،الأسرية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية والعلمية والأدبية والفنية ،شئنا أم أبينا ،فلا يمكن فصله جزئيا أو كليا عن واقعنا ، فالدعوة لفصله هو طموح البعض منذ زمن بعيد ،فالمطلوب هو فصل المتعصب دينيا عن السياسة وليس الملتزم بكل مبادئه القيمة

اقرأ ايضاً