العدد 98 - الخميس 12 ديسمبر 2002م الموافق 07 شوال 1423هـ

جرائم الإنسانية لا يشملها «عفو» ولا تسقط بالتقادم

القانونيون والحقوقيون يذكّرون بالمعاهدات والمواثيق الدولية:

الجفير - عبدالجليل عبدالله 

12 ديسمبر 2002

عقدت جمعية حقوق الإنسان البحرينية واللجنة العربية لحقوق الإنسان أمس آخر جلسة من ورشة العمل التي بدأ انعقادها الثلثاء الماضي لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب من المواطنين تأكيدا للمبادئ الإنسانية التي تلتزم بها منظمة العفو الدولية وجمعيات حقوق الإنسان في العالم.

وأوصى الخبراء والحقوقيون والأطباء العرب بتقديم خبراتهم وتجاربهم إلى الأطباء البحرينيين الذين تطوعوا بالانضمام إلى اللجنة الطبية التابعة لجمعية حقوق الإنسان لكي يحاولوا إعادة تأهيل ضحايا التعذيب من خلال تقديم العلاج الذي تستدعيه حال الضحايا من الناحيتين النفسية والجسدية.

جلسة أمس تضمنت، إضافة إلى المناقشات والشروح الطبية، استعراض بعض الحالات التي لايزال أصحابها يعانون الويلات جراء الجرائم الإنسانية التي تعرضوا لها داخل سجون أمن الدولة على يد الجلادين.

الدور الذي قامت وتقوم به جمعية حقوق الإنسان البحرينية هو محل فخر واعتزاز للإنسانية جمعاء، فعلى رغم حداثة مولدها أنجزت الكثير... من عذبوا ونكِّل بهم قامت الجمعية على رغم ضعف الإمكانات وشحة المال بتحويلهم إلى اللجنة الطبية التابعة لها، وقدمت العلاج إلى الضحايا بعد دراسة حالاتهم، فيما حولت بعضها إلى أطباء متخصصين.

الأمين العام للجمعية سبيكة النجار أكدت «استفادة المشاركين في الورشة من الخبرات التي قدمها الحقوقيون العالميون لكيفية استقبال الحالات التي تقصد الجمعية وتأهيلها بتقديم العلاج المناسب».

وأشارت النجار إلى أن «الكثير من الضحايا لم يحاولوا قصد الجمعية على رغم حاجتهم إلى العلاج، فيما ضحايا آخرون يلجأون إلى الجمعية «للفضفضة» عن طريق البوح بما تعرضوا له وخصوصا أن ذلك يمنحهم بعضا من الراحة النفسية.

قول الحقيقة والثقة والحوار الديمقراطي ملامح المجتمع المدني ـ كما يقول الناطق باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان ـ وغياب أي من هذه القيم الثلاث يؤثر على حياة الناس بشكل سلبي... وقول الحقيقة من واجب المسئولين، والشخص المسئول يجب أن يقول الحقيقة «بصدق»، لكنه إن كذب لا نثق فيه... الثقة هي من مسئولية المستمع، والمسئولية تبدأ دائما وأبدا بالشخص المسئول، لذلك فالشعوب لا تثق بالحكام لأنهم لا يقولون الحقيقة، ما جعل المجتمعات العربية مليئة بمظاهر الأمراض الاجتماعية.

رئيسة مركز تأهيل ضحايا القمع ـ ومقره باريس ـ هيلين غافيه قدمت ورقة عمل شرحت فيها «ضرورة تأهيل ضحايا التعذيب وإشراك المجتمع في ذلك». هيلين بصفتها حقوقية تؤمن بأن من أهدروا الدم العام وعذبوا الإنسان لا يمكن بحال العفو عنهم، وتقديمهم إلى المحاكمة ـ كما تشير المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ـ أمر لابد منه.

اللجنة الطبية لجمعية حقوق الإنسان بصدد أن تتحول إلى مركز لتأهيل ضحايا التعذيب وخصوصا بعد مشاركة عدد كبير من الأطباء النفسيين في ورشة العمل الهادفة إلى تأهيل المواطنين الضحايا... الجزء الأكبر من إعادة التأهيل هو نفسي. يقول رئيس اللجنة رضا علي: «الجانب النفسي أمر مهم، والأطباء النفسيون في حاجة إلى تدريب خاص في هذا المجال... ليقوموا بمهماتهم لتأهيل الضحايا نفسيا».

50 حالة قصدت الجمعية لتقوم بعلاجها وتأهيلها من جديد، لكن هذا العدد لا يعكس الرقم الحقيقي لمن يعيشون جحيم التعذيب... من واجب الجمعية أن تتوجه بنفسها وتطرق أبوابهم لتقديم العلاج إلى من لا يزال الخوف وترسبات الماضي تمنعه من المبادرة والظهور... علي يتمنى «بعد أن تتحول اللجنة إلى مركز للتأهيل أن يتم حصر ضحايا التعذيب، وقصد منازلهم كما يفعل مركز غزة ببرامجه التي يتبعها في ذلك، ولكن من يحتاج إلى علاج وإعادة تأهيل سواء أكان جسديا أم نفسيا ولا يتقدم إلى المعالجة سيظل يدور في الحلقة نفسها التي ستتفاقم ما يؤثر على عمله وعائلته... ندعو الضحايا الذين خرجوا من المعتقل وعجزوا عن استعادة أنفسهم كما كانوا من قبل إلى أن يقصدونا... عائلات المعذبين هم أيضا ضحايا وبالتالي ربما يحتاجون إلى تأهيل».

نائب الأمين العام سلمان كمال الدين أكد أن «جرائم الإنسانية دون كل الجرائم لا تسقط بالتقادم ولا يشملها عفو عام... فالتشريع الدولي في مجال حقوق الإنسان أجمع على ذلك... حتى في حال العفو العام... كمال الدين يستعرض تجربة المغرب وما جرى من حوادث في الستينات، لكن من قتلوا وعذبوا فتحت ملفاتهم الآن... ذلك أن ما جرى من تعذيب يعتبر من أبشع الجرائم في حق الإنسانية، والمشرع في مجال حقوق الإنسان أصر عليها كي يضع حدا لها ويمنعها».

طي هذه الصفحة البغيضة لا تحدث إلا بتفهم مدى الضرر الذي وقع في المجتمع والمواطنين جراء فنون التعذيب الذي مارسه جلادو أمن الدولة... يضيف: «يجب على الجميع التأني والتزام الحكمة للتباحث في هذا الموضوع للخروج بصيغة أو بآلية ترضي الأطراف جميعا كي لا نبقى مشغولين بها وقتا طويلا، فأمامنا أمور أخرى. طرح هذا الموضوع هو لإغلاقه بمعالجة آثاره. الأمر يتطلب لطي هذه الصفحة أن نكون صادقين مع أنفسنا ووطننا وشعبنا وحكومتنا في سبيل معالجة هذا الموضوع بحكمة وروية وهدوء. ونحن نستطيع أن نحقق ذلك إذا ما جلسنا جميعا وهو أمر أفضل من أن تتدخل فيه جهات أجنبية وغير معنية بشئوننا إذ نفضل أن نحل كل قضايانا ومشكلاتنا بالرجوع إلى بعضنا بعضا وهذا توجه الجمعية... وليس الغرض هو التشفي أو الانتقام بل هو ألم يحتاج إلى معالجة... وما نحن أمامه هو موضوع إنساني بحت لا دخل للسياسة فيه».

مقولة «عفا الله عما سلف» لا تكفي كما يقول الطبيب النفسي حميد اليماني: «كما أن الانفتاح الذي حدث غير كافٍ حتى الآن، فضحايا التعذيب يحتاجون إلى من يدعمهم والدفاع عنهم بكل السبل»... اليماني قدم إلى الحضور أمس حالة من حالات كثيرة مرت عليه... هي نموذج مصغر لآلاف ممن عذبوا واعتقلوا والاطلاع عليها عن قرب تكشف ما خلفه حكم قانون أمن الدولة بجلاديه وسجونه ومعتقلاته ومرتزقيه... أحدث جرحا غائرا في المواطن وفي أسرته وفي المجتمع.

يقول اليماني، وهو يعرّف مريضه: إنه «شاب مواطن في العقد الثالث من العمر، متزوج... ويعمل (ميكانيكيا) في إحدى المؤسسات الخاصة... وهو من إحدى القرى، ولديه أسرة من أب وأم وأخ وثلاث أخوات، ولأن الأب عاطل عن العمل كان هو يعيل العائلة».

يضيف اليماني: «مريضي يصف حاله قبل الاعتقال، إذ كان اجتماعيا، له صداقات كثيرة... لم يكن يمارس أي عمل سياسي. لكنه في العام 1995 اعتقل ليلا وأخرج من منزله بالملابس الداخلية فقط... حين أرجع لارتداء ثيابه في الوقت ذاته تعرض للضرب أمام زوجته وطفلته التي كان عمرها آنذاك شهرين... الطفلة التي كانت في قماط ـ كما يذكر اليماني ـ نزع عنها القماش الذي يلفها للكشف إن كانت تحوي متفجرات!... أخذ إلى (مركز الخميس) لمدة أسبوع، وفي أول يومين مُنع من استخدام الحمام إذ كان يسمح له بالتبول فقط وفي (سطل)... وعذب بالضرب في المركز ذاته... بعد أسبوع أخذ إلى (القلعة)... كان الضابط المحقق بحرينيا وكانت التهمة تفجير (الدبلومات)... المعتقل وقف على رجليه لمدة 15 يوما... إذ كان يسمح له بالجلوس لمدة ساعة واحدة فقط يوميا، وأحيانا يعلق في السقف لمدة خمس إلى ست ساعات ويُجرد من ملابسه... عنصر المفاجأة بضربه وهو مخلوع الملابس كان أمرا طبيعيا وهو يتلقى السب والشتم».

يشير اليماني إلى أن «الطريقة التي كان يعلق منها مريضه المعتقل حينها كان يوضع مقلوبا معلقا في السقف... هذه الطريقة طبعا سببت له آلاما في الظهر لايزال يعاني منها... بعد الانتهاء من هذا الوضع يتم إجباره على المشي أمامهم لكي يتلقى ضربا «بالهوز» والتهديد بجلب والدته وزوجته وشقيقاته للاعتداء عليهن كان يتكرر، وأيضا التهديد بممارسة الجنس معه... بعد عام نقل إلى (القاعدة الجوية) وبقي فيها ثلاثة شهور... في هذه الفترة وجهت إليه تهمة أخرى وأرجع على إثر ذلك إلى القلعة... بعد التعذيب وقّع اعترافا لكنه أنكر أمام القاضي ليعاد تعذيبه مرة أخرى».

يقول اليماني إن مريضه بعد ذلك «مكث في سجون القلعة مدة 5 شهور أمضى منها 4 شهور في سجن انفرادي، وبعد براءته أطلق سراحه من دون أي اعتذار... إلا أنه حينما خرج من السجن أصبح منعزلا عن الناس والمجتمع وسيطر عليه الخوف والاكتئاب والتوتر، لكنه أعيد اعتقاله من جديد بعد عامين من الإفراج عنه». المريض يروي لليماني أنه «اصطُحب معصوب العينين إلى ساحة مع 12 شخصا انصرفوا حينما فرغوا من ضربه، حينها بعد فترة نُزع العصاب من على عينيه... ولم يشاهد أحدا فعاد إلى منزله... في بداية عهد الإصلاح».

المريض لجأ إلى مستشفى الطب النفسي طلبا للعلاج، فقد أصبح عصبيا يقوم بضرب زوجته كما كان يضربه جلادوه ويطفئ أنوار المنزل وهو يقوم بذلك تمثيلا للأجواء التي كان يعذب فيها... طبيعته لم تكن هكذا أبدا... اليماني أوضح أن المعني يتلقى العلاج وحاله في تحسن».

كثيرة هي حالات التعذيب التي استعرضت أمس في ورشة العمل... لكن كتابتها وعرضها على القراء تستحق التأجيل للتوسع فيها. حتى الطفولة لم تسلم من جلادي الأمس، فالطبيب النفسي علي فرج تناول هو الآخر مأساة طفل عمره 6 سنوات، على رغم صغر سنه فإن ذلك لم يشفع له من أن يعتقل ويعذب... ويمكن عرض الحالة التي يعاني منها الآن وما تعرض له من تعذيب على أيدي الجلادين ربما يفلح النظر إلى الجرح وإن كان مؤلما في أن يقدم من ارتكبوا جرائم الإنسانية في حق الشعب إلى القضاء ليحاسبوا ويعاقبوا.

التعويض والتأهيل النفسي والاجتماعي بعد تقديم من تلوثت أيديهم بدماء الضحايا إلى العدالة هو مطلب أساسي أكدته المواثيق والمعاهدات الدولية والتي كانت البحرين من موقّعيها، إذ ليس من المعقول أن يظل الجلادون يعيشون بيننا وينتقلون أحرارا فيما جرائمهم التي ارتكبوها من «الحرام» أن ينالوا جزاءها بمنحهم الحصانة والحماية كي لا تطولهم أيدي العدالة.

وليس من تفسير منطقي لما يحدث إلا أن هؤلاء كانوا يمتثلون إلى أوامر وسياسة خاصة بالدولة في ذلك الوقت وبالتالي فهؤلاء أتباع وأدوات يجب عدم التعرض لهم أو محاسبتهم، إذ أن محاسبتهم تعني محاسبة الدولة ما يعني في النهاية أن تقديمهم إلى المحاسبة «عشم إبليس في الجنة»، وعلى رغم ذلك فالجميع يتمنى أن يكون تفسيره هذا لا أساس له من الصحة وإن كان كذلك فالواقع يتطلب أن يأخذوا جزاءهم.

عن هذا الموضوع قال المحامي محمد المطوع: «يوجد عرف دولي اتفق عليه ممثلو الدول في منظومة الأمم لحقوق الإنسان على أن الجرائم ضد الإنسانية سواء تمثلت في العقاب الجماعي كالتصفيات العرقية أو جرائم الحروب أو الجرائم الفردية التي تقوم بها أجهزة المخابرات ضد العناصر الوطنية النشطة... هذه الجرائم التي يرتكبها المجرمون أو زبانية الأنظمة تعارف المجتمع الدولي على عدم سقوطها بالتقادم واضعين فلسفة تنتهج أسسا دولية لعدم سقوط تلك الجرائم وبالتالي بقاء العقوبة والمحاسبة تلاحق المجرمين لتشكل مانعا من ارتكاب أو انتهاك أي حق في المستقبل وإبقاء منتهك العقاب طريد العدالة.

المطوع يضيف: «المرسوم بقانون رقم 15 المتعلق بالعفو الشامل لا يشمل من ارتكبوا جرائم التعذيب، إذ نصت المادة الثالثة ـ الفقرة الأولى منه ـ على أن المشمولين بالعفو هم من الموقوفين على ذمة التحقيق والمعتقلين والمحكومين ومن ثم إبعادهم قسرا من البلاد أو هاجروا تحت وطأة الاضطهاد... وهذا المرسوم لا يشمل القائمين على القتل خارج إطار القانون وكذلك أصحاب الحق الخاص من الخلَف يحق لهم تحريك دعاوى بمقتضى هذا المرسوم. أما ما جاء في المرسوم رقم 56 باعتباره تفسيريا للمرسوم رقم 10 فقد خرجت السلطة المشرعة بتفسيرها عن مدى المرسوم لتدخل فيه المعذبين ممن ارتكبوا جرائم ضد المواطنين سواء كانوا فاعلين أصليين أو مساعدين في ارتكاب جرائم التعذيب، وبالتالي وسع المشرع المرسوم بقانون رقم 20 بإضافة هذه الفئة التي كانت خارجة وخرجت بهذا عن مفهوم التفسير لتغير مضمون المرسوم وليشمل ما شملهم المرسوم 56 تمهيدا لعودة المدعو فليفل ولعدم تعرض أي من المعذبين الآخرين للملاحقة أو تقديمهم إلى المحاكمة.


جمعية حقوق الإنسان تقدم عريضة إلى الملك المفدى تطالب برفع الحصانة والحماية القانونية عن الجلادين ومجرمي الإنسانية

الجفير - ورشة جمعية حقوق الإنسان

رفعت جمعية حقوق الإنسان عريضة إلى الملك المفدى الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة تطالب فيها برفع الحصانة والحماية القانونية عن الجلادين ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية. وجاء في عريضة الجمعية: «أنه حرصا منا على إحقاق العدالة والديمقراطية وتعزيز النهج الإصلاحي الذي توافقت عليه إرادة الملك والشعب، نناشد عظمتكم إلغاء المرسوم بقانون رقم 56 لسنة 2002 بتفسير بعض أحكام المرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2001 والذي يعطي من ارتكب جرائم التعذيب من موظفي وزارة الداخلية حصانة من المثول أمام محاكم البحرين، وبذلك تمنع العدالة من أن تأخذ مجراها في إنصاف الضحايا والاقتصاص من المجرمين.

إن هذا المرسوم يتناقض مع المادة 19 من دستور مملكة البحرين والذي يجرم التعذيب ويعاقب مرتكبيه، وكذلك اتفاق مناهضة التعذيب التي صدقت عليها مملكة البحرين وبالتالي أضحت جزءا من قانونها الوطني، إضافة إلى ما استقر عليه القانون الدولي في اعتبار وإساءة المعاملة جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم ولا يمكن العفو عنها»

العدد 98 - الخميس 12 ديسمبر 2002م الموافق 07 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً