العدد 111 - الأربعاء 25 ديسمبر 2002م الموافق 20 شوال 1423هـ

ماضٍ تأصّل في الأهالي... حاضر موجوع ومستقبل ينتظر بأمل

عين عذاري تعجز عن سقاية البعيد والقريب

منذ القدم ارتبط التاريخ بمجموعة أساطير شكلت ملامحه وأوصلها إلى الأجيال المتعاقبة، حتى غدت الأساطير مرجعية يعود إليها الإنسان وهو يهم بتدوين تاريخه... وقد لاقت الأساطير طريقها إلى عين عذاري، تلك العين التي تختزل تاريخ شعب عريق، أو ربما وجدت عذاري مكانها بين الأساطير التي توورثت عبر الأجيال وتنوقلت بين أهالي البحرين. بعيدا عن الأساطير، كانت عين عذاري واقعا مهما بين أهالي البحرين يرسم لهم جانبا من حياتهم اليومية، فهي مصدر الماء العذب للقرى التي حولها، وملاذ لمن أراد أن يبوح بهمومه بعيدا، ويجد لنفسه متنفسا منحته إياه الطبيعة. لكن حاضر عين عذاري يناقض ماضيها، ويفلح في إحداث الوجع له بقوة، كما جاء على لسان الكثيرين وخصوصا أهالي قرية عين عذاري وهم أكثر الناس دراية بحالها... فكيف تدخلت اليد البشرية وغيرت قوانين الطبيعة؟ وكيف أصبحت عين المياه العذبة إلى مكب للنفايات وتجمّع للطحالب والأوساخ قبل أن تتدخل الجهات المسئولة هذا العام وتبدأ عمليات التطوير؟

لقد اختلفت الأقاويل فيما يخص التسمية بعين عذاري، ولكن أكثر الروايات شيوعا تلك التي تقول: إن فتاة عذراء ضربت بقدمها الأرض ففجرت من باطن الأرض مياها حلوة أدخلت السعادة في قلوب الناس.

وأسطورة أخرى تقول: إن فتاة عذراء جميلة تعيش مع زوجة أبيها كانت تتولى مهمة غسل ثياب الأسرة بمياه البحر، وذات مرة ذهبت ولم تجد ماء فوقفت تبكي أمام ساحل البحر الذي كان في حالة الجزر فجاءها رجل غريب يسألها عن سبب بكائها فقالت له سر بكائها وخوفها من عقاب زوجة أبيها المتسلطة فقال لها: انظري خلفك فسوف تجدين ماء فنظرت خلفها فوجدت بحيرة كبيرة فيها ماء حلو... ويقال إن هذه البحيرة لم تكن سوى عين عذاري وان الرجل هو الخضر(يوشع بن نون) عليه السلام الذي جاء ذكره في القرآن الكريم.

لكن أكثر الروايات شيوعا في البحرين هي القصة الأولى التي ترتبط بأذهان الناس بصور ذهنية مختلفة، وآيا كانت، فعين عذاري كانت تحمل قدسية خاصة لدى أهالي البحرين جميعا، كما هو الحال مع كثير من العيون الأخرى التي كانت منتشرة في البحرين، مما جعل إقامة المعابد قرب العيون جزءا من طقوس دينية اتبعها الأهالي في مرحلة من قبل الإسلام كمعبد «باربار» و«أم السجور» و«دراز» و«سار» فمظاهر الجفاف التي أحاطت بالجزيرة كانت كافية لخلق هذه القدسية لدى السكان الذين أثروا الحضارات الماضية على هذه البقعة من الأرض بفضل وجود هذه الينابيع فيها مثل حضارة دلمون على سبيل الذكر لا الحصر.

إلى ذلك، لعبت عين عذاري دورا كبيرا إلى جانب مياه الينابيع الأخرى في استقطاب المجموعات السكانية في هذه المنطقة والى خلق وضع مستقر لهؤلاء السكان بفعل الثروة الزراعية التي قامت بالاعتماد على غني البحرين بالمياه الجوفية والتي يعود مصدرها إلى خزان الدمام الجوفي الذي يشكل جزءا صغيرا من الخزان الشرقي الممتد من صحراء الدهناء بوسط المملكة العربية السعودية.

هذا الجزء يغذى بفعل مياه الأمطار ويتدفق شرقا تبعا للميل العام للطبقات الحاملة لها نحو الساحل السعودي الشرقي منطقة القطيف والاحساء في شرق السعودية والبحرين والذي قدر ايراد البحرين منه بمئة مليون متر مكعب في السنة من المياه الطبيعية.

لكن كيف كان لتدخل اليد البشرية أسوأ الأثر في استنزاف المياه الجوفية بفترة قدرت بـ 75عاما؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة عندما نهم بالحديث بحسرة لها غزارة عن عين عذاري التي كانت مرادفة للفظة البحرين.

أستاذ الهيدروجيولوجيا المشارك ومدير برنامج علوم الصحراء والأراضي القاحلة في جامعة الخليج العربي الدكتور وليد الزباري يقول: «إن عمليات التنقيب عن النفط في البحرين وما صاحبها من عمليات حفر والتي أدت إلى إنشاء آبار لسحب المياه الجوفية للاستفادة منها في أغراض مختلفة كانت لها آثار سلبية في تدني مستوى تدفق المياه، وتلا ذلك عملية اكتشاف النفط التي جاءت في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي إذ أدخلت الكثير من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى التوسع العمراني والتزايد الكبير في عدد السكان وتغير المستوى المعيشي لدى السكان مما أدى إلى ارتفاع معدل الطلب على الماء وأوجد حاجة لحفر الآبار للوفاء بالمتطلبات السكانية والتنمية».

ويضيف: «بزيادة عدد الآبار زادت كمية المياه المسحوبة من المياه الجوفية وتجاوزت معدلات التصريف الطبيعي للخزان التي كانت تصرف من العيون».

وفي فترة الستينات، تسارعت مرحلة الانهيار الكلي لمعدل التدفق تبعا لعمليات السحب الزائدة إذ فاقت الكميات المسحوبة الحد الآمن لكميات السحب من الخزان والمتفق عليها وهي 100مليون متر مكعب في السنة وهي كمية المياه الجوفية المتدفقة بصورة طبيعة من الجانب السعودي.

وحسب زباري: «صاحب انخفاض مستوى المياه المتدفقة من الخزان أيضا تدهور في نوعية المياه مما أثر بشكل مباشر على تدفقها في العيون الطبيعية إذ قل معدل تصريفها بدرجة كبيرة وجف الكثير منها وازدادت نسبة ملوحة المياه الباقية منها وهذا التدهور في وضع المياه أثر سلبا على مجال الزراعة وكذلك أسهم في ازدياد التلوث البيئي إلى جانب حرمان أبناء البحرين من متنفس طبيعي كانوا يلجأون أليه للراحة والاستجمام».

تشير الكثير من الوثائق التاريخية إلى أن السير تشارلز بلغريف مستشار حكومة البحرين عندما تولى منصبه في فترة العشرينات في البحرين كانت عين عذاري قد امتلأت بالأوساخ والفوضى بسبب حال الإهمال في تنسيقها وانتشار جداول المياه (السيبان) من حولها بشكل غير منظم مما جعلها تفقد الكثير من مياهها التي تتسرب عبر جوانبها مما دفعه إلى إصدار تعليمات ببناء وإصلاح العين والأراضي المحيطة بها والحفاظ على مياه العيون من الهدر واستغلالها في ري البساتين المجاورة لها وقام أيضا ببناء منصة اسمنتية كان يقف عليها السابحون من رواد العين وكذلك تمت إقامة مسجد مطل على العين ومقهى واستراحة صغيرة وزرع حول العين الأشجار والأزهار العطرية وغير مجرى العين إذ بناه بالاسمنت ليحفظ المياه من التسرب.

ويذكر السير بلغريف في مذكراته عن إقامته في البحرين التي امتدت إلى 31 عاما (منذ العام 1926 وحتى 1957) أن المياه كانت غزيرة في عين عذاري ما يصعب على السباح الوصول إلى قاعها وتصعب عملية السباحة فيها لغير المتمرسين وهذا ما يعزز الخرافة التي كانت متداوله بين الأهالي والقائلة إن العين كان لها حق على الناس إذ لم يمض صيف واحد إلا وكان يشهد ضحية بسبب الغرق فيها وكان يسبح في أرجائها أيضا سمك يشبه سمك الشبوط النهري.

وبالرجوع إلى التقارير والدراسات ـ التي تناولت وضع المياه الجوفية في البحرين بشكل عام ووضع العيون الطبيعية بشكل خاص ـ تبين أن معدل تدفق المياه في عين عذاري كان قد قدر العام 1924 بـ 450 لتر/الثانية، وانخفض في العام 1953 ليصل إلى 267 لتر/الثانية وازداد الأمر سوءا في العام 1979 إذ وصل معدل التدفق فيها إلى 180 لتر/الثانية، وكانت عين عذاري آخر عين انخفض فيها معدل التصريف ما يدل على مدى غزارة مياهها الطبيعية وهذا ما يؤكده الأهالي بأحاديثهم عن ذكرياتهم مع عين عذاري وعن طول امتدادها الذي كان يصل إلى قرية سار، والكثير من الذكريات التي تتناقض تماما مع الحاضر... فهل يمكن لليد البشرية إن تتدخل مرة أخرى، ولكن هذه المرة نحو الإصلاح؟

يعود وليد الزباري ليقول: «إن الحلول الطبيعية ـ والتي تدخل في وضع المياه الجوفية بصورة عامة وليس فقط فيما يخص مياه العيون ـ تحتاج الى اعتماد مصادر أخرى للماء بصورة أكثر فاعلية كمحطات التحلية والمياه المعالجة والتي من شأنها تخفيف الضغط بصورة كبيرة على المياه الجوفية وهذا ما قد يسهم في الحفاظ على هذه المياه على رغم أن الدراسة الهيدروجيولوجية التي أجريت لخزان الدمام تقلل من الاعتماد على الحلول الطبيعية وخصوصا في ظل التزايد النامي لعدد السكان والمشروعات التنموية التي تشهدها البلاد (...) ما يجعل الحلول الصناعية بمعالجة مياه الصرف الصحي والذي تقل معه الكلفة بصورة نسبية هو الأقرب للتنفيذ وهذا ما ينطبق على وضع عين عذاري إذ يتوجب سد منبع العين بشكل مبدئي كي لا تتسرب مياه الصرف الصحي المعالجة إلى الخزان الجوفي من دون وجود دراسات هيدروجيولوجية متكاملة بشكل مسبق، وهذا ما آخذت به حكومة المملكة نحو تطوير وإصلاح عين عذاري.

المدير العام للإدارة العامة للخدمات البلدية المشتركة جمعة الكعبي تحدث عن مشروع تطوير العين والمتنزه المحيطة به فقال: «مشروع تطوير عين عذاري من المشروعات التي حظيت باهتمام وتوجهات القيادة في البلاد وعلى رأسها صاحب الجلالة سمو الشيح حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ولقد بدأنا المرحلة الأولى من مشروع تطوير العين منذ ستة شهور مضت إذ تضمنت تطوير العين نفسها وتحديثها اعتمادا على الحل الصناعي إذ تم إغلاق المنبع، ومن ثم العمل على إعادة تدفق المياه وإملاء البركة بالماء النقي الذي تتم السيطرة عليه من خلال وحدة تحكم».

ويضيف: «تم أيضا تحديث جوانب العين من خلال بناء أجزاء جديدة وحديثة للجهة المحيطة بها، وتضمن المشروع تطوير الطرق المؤدية إلى العين وترميم المسجد المطل عليها والمظلات المحيطة بها لجلوس العائلات وكذلك أقمنا استراحة للزوار ومرافق الاستحمام وتبديل الملابس (...) تعمدنا الحفاظ على الشكل التراثي الذي بقي قائما طوال السنوات الماضية متحديا عوامل البيئة المحيطة به لأننا حرصنا على الارتقاء بالعين لما حملته من قيمة تاريخية وتراثية تؤهلانها لتكون مركز استقطاب سياحي وهذا ما ينطبق على المشروعات الأخرى التي نعد للقيام بها مستقبلا وهي تطوير العيون المهمة في المملكة وتحديثها بما يتناسب مع متطلبات العصر».

«بلغت كلفة هذا المشروع الحكومي 610 آلاف دينار فقط للمرحلة الأولى من المشروع والتي يتوقع الانتهاء منها في نهاية شهر يناير 2003م إذ يتم استقبال الجمهور».

أما بالنسبة للمرحلة الثانية من المشروع يقول الكعبي: «المرحلة الثانية تخص جانب المتنزه الواقع قرب العين وهو أيضا مشروع حكومي بعيدا عن الاستثمار التجاري قدرت كلفته بحوالي أربعة إلى ستة ملايين دينار ويحتاج إلى فترة زمنية تصل إلى عام كامل من العمل به، ويتضمن المشروع وضع الألعاب الحديثة في المتنزه وإقامة بعض الأبنية التي تحمل طابعا معماريا خاصا يتناسب مع القيمة التراثية للمكان، وسيشتمل المتنزه على مجمع لصالات الألعاب الإلكترونية وصالة للبولنج ومطاعم، وهذا الجانب يشكل حيزا يتماشى مع متطلبات الناس العصرية والتي من شأنها استقطابهم إلى المتنزه».

ويضيف: «بعد الانتهاء من المشروع قد نحصل على عروض مختلفة لإدارة هذا المتنزه من قبل بعض الجهات الخاصة لكن ذلك يتم بعد دراسة وافية لهذه العروض، فنحن نحرص على إنجاح مشروعنا والحفاظ على مستوى الخدماتية المقدمة فيه والتقيد بأعمال الصيانة اللازمة للمرافق المختلفة التي يحتويها المتنزه وان تم الحصول على مثل هذه العروض فسيتم البت فيها على شكل مناقصات نحرص على جانب الشفافية في التعامل معها». ويشير الكعبي إلى أهمية هذا المشروع من الناحية البيئية وليس فقط من الناحية الترفيهية إذ يقول: «عانت منطقة عذاري من تجاوزات الكثير من الجهات التي جعلت من المنطقة المحيطة بالعين مكبا للنفايات والمياه العادمة ما تسبب في انبعاث الروائح الكريهة وتحويل هذا المتنفس الذي اشتهرت به البحرين تاريخيا إلى صورة مغايرة تماما لما عرف عنه، لذلك حرصنا على وضع قاعدة من التعاون المدروس يقي هذه المنطقة من هذه التجاوزات التي كان لها أسوأ الأثر على الناحية البيئية التي نسعى إلى الحفاظ عليها».

إن مشروعات تطوير العيون المائية في البحرين آمر يتناغم أكثر مع الاحتياجات السياحية النظيفة التي نسعى إليها لما تحمله من قيمة تراثية وتاريخية بارزة يحبذها الناس وتتصل بثقافتهم بصورة أكثر عمقا بدلا من البحث عن المشروعات ذات الطابع الحديث غير مرتبط بعراقة الماضي ونحن نملك مقومات تراثية تتمثل في وجود مثل هذه العيون توفر علينا البحث عن مشروعات بعيدة ولا تتصل بماضينا ولكي لا ينطبق علينا المثل القائل (عذاري تسقي البعيد وتخلي القريب)

العدد 111 - الأربعاء 25 ديسمبر 2002م الموافق 20 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً