يؤكّد الباحث العراقيّ جواد علي (ت 1987) في كتابه «المهديّ المنتظر عند الشيعة الإثني عشريّة» أنّ الإيمان بالإمامة في المذهب الشيعيّ القديم كان القاسم المشترك والحاسم فيما كان الشيعة أحرارا في البقيّة، مشيرا إلى أنّ نظام السفارة بين الإمام والشيعة أملته الظروف السياسيّة وأنّ خلفيّات انتهائه غامضة حتى الآن.
الكتاب أصلا أطروحة دكتوراه كُتبت بالألمانيّة وترجمها الجزائريّ أبوالعيد دودو، وصدرت الطبعة الثانيّة منها العام 2007 عن منشورات الجمل في 318 صفحة و10 فصول. يبحث الكتاب في الفترة الغامضة لتاريخ الشيعة عندما اختفى الإمام الثاني عشر وناب عنه سفراؤه، في محاولة لفصل الحقيقة التاريخيّة عن الأسطورة، بتعبير المؤلّف.
لا يُنكَر الجهد المبذول في دراسةٍ حاولت كشف تفاصيل مهمّة، لتكون فاتحة دراسات مستقبليّة لمثل هذه الموضوعات «البِكْر»، إلا أنّه من السهولة ملاحظة أنّ ثمّة خللا في ترجمات النّصوص بين اللّغات، كذلك هناك بعض الإشكالات في فهم بعض المسائل العقائديّة، إضافة إلى شيء من الخلل في تبويب الكتاب، ولكن عموما الأطروحة تنمّ عن سعي حثيث لتقديم الجديد في هذا المجال.
يوضح المؤلّف الذي يعدّ من أشهر المؤرّخين العرب أن الحكّام العبّاسيّين فرضوا عزلةّ على أئمّة أهل البيت وخصوصا الأئمّة الأخيرين في سامرّاء بسبب ثورات الأسرة الهاشميّة، كما تأثرت بعض الكتب المؤلّفة عن الإمام المختفي بالخرافات والدعاية المضادّة من السلطة الحاكمة، كلّ ذلك أدّى إلى غموض شديد في حياة الأئمّة.
محاربة «الجَوْسَسَة» بسلاح التقيّة
ويوضح المؤلّف أنّ سياسة الدولة تجاه الأئمّة كانت متفاوتة، فلم يكن يجمع العبّاسيّين خط سياسيّ موحّد. وإنّ العبّاسيّين لمّا كانوا عملوا مع الشيعة على إسقاط الدولة الأمويّة فإنّهم كانوا أعرف بالطرق التي يتّبعونها مع المتحالفين معهم، ولذلك اضطرّ الشيعة لمقاومة «سياسة الجَوْسَسَة» إلى بناء نظام «التقيّة» حسب خطّة محكمة، ولاسيّما في خلافة المنصور، مع تحقيق الاستثمار الأمثل من الشبكة الشيعيّة المتغلغلة في مفاصل الدولة التي ربما وصلت لمراتب عليا أحيانا. تلك الظروف فرضت اعتماد نظام إداريّ يقسّم المناطق الشيعيّة التي كانت ممتدّة إلى مناطق بعيدة وعلى طبقات اجتماعيّة متفاوتة بدليل ما يُحمل إلى الإمام من أموال وهدايا شكّلت ثروة جَهِدَ الخلفاء لاكتشاف أرقامها بلا جدوى بسبب السريّة. وكان يوصل الحقوق الشرعيّة للإمام الوسطاء الذين كانت أيديهم مطلقة بحكم الظرف السياسيّ، وهو ما سبّب انقسامات في الآراء الدينيّة التي تتمحور كلّها حول الإمامة كمرتكز أساسيّ للتشيّع.
ويشير المؤلّف إلى أنّ النقاش على وجود عقب للإمام الحادي عشر (ت 260 هـ) خلق أزمة كبرى بين الشيعة، وانقسامات حُسمت في النهاية لصالح القائلين بوجود إمام مختفٍ بحسب التوقيعات التي ترد من الإمام المختفي إلى بعض الوكلاء والسفراء. ويستنتج المؤلّف أن الكتب القديمة التي ظهرت في زمن الغيبة الصغرى لم تحدد تفاصيل عملية الغيبة.
السفارة إجراء تنظيميّ وليس عقائديّا
تلك الغيبة فرضت الاتصال بين الإمام وبين شيعته عبر السفراء، وهو إجراء تنظيميّ وليس عقائديّا كما يقول المؤلّف. ويعرض المؤلف لتاريخ السفراء الذين كانوا (كما يبدو) ذوي نفوذ دينيّ واجتماعيّ، وكان لهم احترام من السلطة السياسيّة، وعلاقات مع الشيعة ذوي النفوذ الذين اصطدمت سلطتهم بسلطة السفراء، متطرّقا إلى شخصيّة محمّد بن عليّ الشلمغانيّ الذي كان ذا مواهب فكريّة جعلت كتبه تنتشر في البيوت الشيعيّة، وتبقى حتى بعد انفصاله عنهم واللعنة الكبرى التي حلّت به لانحرافه الفكريّ، ومثّل غياب كتبه بعد عدّة قرون حلقة مفقودة لتوضيح آرائه.
ويقول المؤلف إنّ الانقسام كان سمة علم التوحيد الشيعيّ حتى الغيبة الصغرى، ثم فرضت الحاجة إعادة صياغة مبادئ علم التوحيد، أمّا علم الحديث فساده اضطراب بعد موت الأئمّة واشتداد التزييفات فيه، وهنا يناقش إشكاليّة الأخبار الآحاد وصراع الأصوليين والأخباريّين في المنهج البحثيّ.
فوضى الفقهاء استمرار لفوضى الوسطاء
ثمّ يتحدّث عن الخلط بين السفراء والوكلاء، مشيرا إلى صعوبة الحكم بأنّ تعيين الوكلاء تمّ على يد الإمام الحادي عشر أو على يد السفير الأول، وما إذا كانوا مستقلّين أو مرتبطين بالقيادة دائما. خاتما بالإشارة إلى أنّه ليس ثمّة أسباب واضحة لانتهاء عصر السفارة، ويعزو المؤلف ذلك واقعيا إلى وضع خارجي صعب فضّل فيه السفراء التخلّي عن مبدأ السفارة. ما أتاح للفقهاء والعلماء فرصة تولّي قيادة الشيعة، وقد انشغلوا في البداية بمسائل الشرع وعلم الكلام دون التدخل السياسيّ، وشيئا فشيئا بدأوا يشتغلون بالسياسة ولاسيّما بعدما أصبح التشيّع دين إيران الرسميّ ق 19م. ويشير المؤلف إلى أن الفوضى التي عمّت الشيعة لاحقا لم تكن أفضل حالا من الفوضى التي عمّتهم والإمام موجود قبل الغيبة الصغرى.
وأخيرا ستبقى مثل هذه الدراسات الأكاديميّة مطروحة للبحث، وتدعو المؤسسة الدينيّة الشيعيّة إلى تبيان الموقف بشأنها، والسير على نهجها في إبراز تاريخ طائفة تشهد اليوم عصرا إعلاميّا ذهبيّا.
العدد 2190 - الأربعاء 03 سبتمبر 2008م الموافق 02 رمضان 1429هـ