العدد 2196 - الثلثاء 09 سبتمبر 2008م الموافق 08 رمضان 1429هـ

هل ربح بوش الحرب على العراق؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

إعلان الإدارة الأميركية عزمها على خفض عدد قوات الاحتلال في العراق يشير إلى توجهات سياسية يمكن ربطها بثلاثة عوامل ساهمت مجتمعة في الضغط على واشنطن لاتخاذ مثل هذا القرار.

العامل الأول يتصل بقرب موعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. فالإدارة التي تؤيد علنا مترشح الحزب الجمهوري جون ماكين تريد مساعدته في معركته الانتخابية من خلال الإيحاء بأن وضع بلاد الرافدين يتحسن ما يعني أن قرار الحرب كان صائبا وبدأ يعطي مفعوله السياسي بدليل أن شعب العراق أخذ يتعامل بموضوعية مع الوقائع الميدانية.

العامل الثاني يتصل بالعراق وتراجع نسبة العنف قياسا بالسنوات السابقة. فالإدارة تريد القول إن الاحتلال نجح في تجاوز الإخفاقات والفشل وبدأ يتجه نحو النجاح في تحقيق أهدافه التي حددها في برنامجه. وخفض القوات يشير إلى وجود نوع من التفاعل الإيجابي بين أهل بلاد الرافدين وقوات الاحتلال بعد تراجع المقاومة وانغلاقها في بعض المناطق وانعزالها إلى حد أدنى مقبول قياسا بالفترة السابقة.

العامل الثالث يتصل بانهيار الوضع الأمني في أفغانستان وعجز قوات الاحتلال الدولية (الأطلسية) على محاصرة العنف والقضاء على بؤر الممانعة والمقاومة في الكثير من المناطق التي تتحكم بها القبائل والأقوام. وسحب ثمانية آلاف جندي أميركي ونقلهم من العراق إلى أفغانستان يأتي في سياق ضبط العنف وملاحقته من مكان إلى آخر وذلك بحسب ما تمليه مقتضيات الأمن من دون أن يعني الأمر أن مشروع الاحتلال فشل بل إنه ينجح بهدوء ولكنه يحتاج إلى وقت للوصول إلى أهدافه النهائية.

هذه العوامل الثلاثة تشكل مجتمعة قوة ضغط مشتركة ساهمت في اتخاذ الإدارة الأميركية قرار خفض القوات في العراق وزيادتها في أفغانستان. فالقرار لا ينص على سحب نهائي وإنما نقل قوات وموضعتها في مكان آخر بذريعة أن العنف أخذ ينتشر في أفغانستان ويتمدد إلى باكستان ما يهدد الدولة النووية بالانهيار والتفكك وربما سقوط الصواريخ والقنابل في شبكات تمتهن «الإرهاب».

قرار الخفض هو أقرب إلى قرار نقل قوات من الغرب (العراق) إلى الشرق (أفغانستان). ولكنه أساسا اتخذ بناء على قناعات سياسية تشير إلى احتمال بدء عودة الهدوء الشامل إلى بلاد الرافدين ما يعطل إمكانات استخدام هذه المسألة مادة إعلامية في معركة الانتخابات التي ارتفعت درجة حرارتها في الولايات المتحدة. وحتى يكون قرار النقل مجديا ربطت واشنطن بين الهدوء في العراق والاضطراب في أفغانستان لتبرير سياسة عامة أخذت تتجه نحو الفشل الاستراتيجي.

الفشل الاستراتيجي لا يعني أن الإدارة الأميركية لم تحقق أهدافها الموضعية ما جعلها تتباهى بنمو الأمن في العراق لتعطل بذلك مادة سجالية كان بإمكان مترشح الحزب الديمقراطي استخدامها في معركته الانتخابية. فالولايات المتحدة تعتبر من خلال تصريحات كبار قادة إدارتها أنها لم تفشل في مشروعها. ومشروعها الغامض الذي ترفض الإعلان عنه حتى الآن لم يستقر على صورة واضحة يمكن البناء عليها لتحديد عناصر قوته وضعفه. وعدم إفصاح الإدارة عن مشروعها أعطاها فرصة للاحتيال والتهرب من المسئولية. فهل خططت واشنطن من البداية لتقويض الدولة العراقية وتفكيك العلاقات الأهلية وبعثرة النسيج الاجتماعي وتوزيع المذاهب والطوائف والأقوام على مناطق محددة لفرض أمر واقع يعتمد على الانقسام الديموغرافي لتبرير الإعلان عن ثلاث دويلات (فيديرالية طوائف) في الشمال والجنوب والغرب؟

إذا كانت خطة أميركا من البداية تقسيم العراق إلى ثلاث دول تكون بذلك نجحت في ترسيم هيئة «النموذج» الذي تراه يناسب البلدان العربية والإسلامية. أما إذا كانت الخطة تقضي بإعادة بناء العراق الوحدوي العربي الديمقراطي وتحويله إلى نواة حديثة ومعاصرة يمكن تصديرها إلى المحيط والبناء عليها نماذج متقدمة في المستقبل تكون أميركا بذلك قد فشلت بدليل أن ما حصل يتعارض ميدانيا في الشكل والجوهر مع الطموح.

خدعة النموذج الأميركي

أي نموذج كانت تريده واشنطن للعراق؟ حتى الآن لا تجيب الإدارة عن السؤال. والسكوت يعني ترك الأمور تأخذ مجراها الزمني - الطبيعي وبعدها تعلن عن الأسباب والدوافع الحقيقية التي أملت على الإدارة اتخاذ قرارها بالحرب والعدوان والتدمير والتقويض والتفكيك وشرذمة الناس وتوزيعهم على مناطق طائفية ومذهبية وأقوامية تعطي الذرائع لإعلان قيام دويلات الأمر الواقع.

هل كانت الخطة «السرية» تقضي بأن يحصل في العراق ما حصل أم إن الخطة كانت مغايرة وأدى فعل الاحتلال إلى توليد ردود فعل لم يكن بالإمكان السيطرة عليها؟ الجواب حتى الآن غير واضح. والإدارة التي ارتكبت جرم الاحتلال لاتزال تدّعي أن برنامجها نجح وهي لم تفشل في خطتها الموضوعة وها هي الآن وبعد مرور خمس سنوات على الفعل الأول بدأت تقطف الثمار السياسية (النفطية) وأخذ الهدوء يسود بلاد الرافدين ما أوجب على واشنطن خفض قواتها ونقلهم إلى أفغانستان.

قرار الخفض والنقل عشية الانتخابات الأميركية وجه رسالة للحزب الديمقراطي تشير إلى أن موضوع العراق لم يعد تلك المادة الإعلامية التحريضية الصالحة للاستخدام ضد المنافس الجمهوري. والقرار أيضا أراد التأكيد على أن المشروع الأميركي في العراق بدأ ينجح وأخذ ينتقل من ضفة الفشل إلى ضفة الفوز... ولكنه يحتاج إلى مزيد من الوقت لاستكمال ما تبقى منه من عناصر ستبقى «مجهولة» ولن يعلن عنها إلا بعد حصولها.

ما هي هذه العناصر «السرية» التي تحتاج إلى وقت قبل الإعلان عنها؟ الإدارة لا تقول، ما يعني أنها تحبذ السير في خدعة تعتمد سياسة الأمر الواقع وترك الوقائع الميدانية تأخذ مداها وحين تستقر على شكل ما (نموذج غامض) تعلن ساعتذاك أن ما حصل هو بالضبط ما خططت له وما كانت تريده.

هذه السياسة الغامضة مخادعة ولكنها أخذت تستقوي الآن بمتغيرات ثلاثة. الأول أن نسبة العنف تراجعت عن السابق بعد أن نجحت إدارة الاحتلال في تمزيق المقاومة وحرفها عن أهدافها وتحويلها إلى قوى تتنازع السلطة في الأحياء والمحافظات والمناطق. فهناك صراع السنة ضد الشيعة والشيعة ضد السنة، وهناك صراع السنة ضد السنة (القاعدة والصحوة) وصراع الشيعة ضد الشيعة (فيلق بدر والتيار الصدري)... وهناك صراع الكرد ضد العرب والتركمان ضد الكرد. ومجموع تلك الصراعات يعني ضياع هوية العراق وتبعثر مدنه وحواضره وتوزع ثرواته (المياه والطاقة) وربما دخوله في عصر «الفوضى المنظمة» وخروجه النهائي من المعادلة العربية.

المتغير الثاني أن هيئة العراق السكانية تغيّرت في إطار الجغرافيا السياسية. فالخريطة لم تتعدل في الصورة السياسية ولكنها تبدلت من الداخل إذ أعيد هيكلة التوازنات من خلال اتباع منهج الطرد الأهلي والفرز العرقي والتطهير الطائفي - المذهبي ما أدى إلى توزيع خريطة بلاد الرافدين على فيديراليات المناطق كما نص عليه الدستور الذي تم صوغه بإشراف الاحتلال.

المتغير الثالث أن سياسات دول الجوار تبدلت من دون اللجوء إلى الحروب. فالتهديدات المتكررة بالتقويض وتغيير الخرائط السياسية أعطت مفعولها إذ اضطرت طهران ودمشق إلى القبول بالتفاوض وتقديم تنازلات ومعلومات ساعدت على السيطرة ومحاصرة الفوضى ومطاردة العنف. فالتهديد باللجوء إلى القوة أدى إلى تغيير سياسات الأنظمة وأبقى على الأنظمة من دون تعديل. وبما أن الهدف هو تغيير السياسة وليس تعديل الأنظمة أو الخرائط فإن الاحتلال نجح في ترويض دول الجوار وإقناعها بالتعاون والتعامل مقابل المحافظة على أنظمتها.

مجموع هذه المتغيرات ترى إدارة واشنطن أنها كافية للتأكيد على أن الاحتلال لم يفشل وإنما بدأ يتجه نحو النجاح بدليل إعلان الرئيس جورج بوش عزمه على خفض القوات ونقلها إلى أفغانستان لمحاصرة الفوضى ومنع انتشار العنف إلى داخل حدود دولة نووية.

السيناريو الأميركي بدأت تتوضح ملامحه على رغم إصرار واشنطن على عدم كشف تفصيلاته. فالغموض وعدم توضيح الأهداف والتهرب من المسئولية كلها وسائل مرنة تساعد على الاحتيال وتزوير الوقائع وإقناع الناخب (دافع الضرائب) بأن قرار الحرب ليس سيئا وإنما هو أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2196 - الثلثاء 09 سبتمبر 2008م الموافق 08 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً