العدد 2147 - الثلثاء 22 يوليو 2008م الموافق 18 رجب 1429هـ

«أمن إسرائيل» فوق الجميع

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كوندوليزا رايس في أبوظبي. باراك أوباما في العراق. غوردن براون في «إسرائيل». الثلاثة تحدثوا عن الأمن والمخاطر المفترضة التي تهدد الاستقرار. قبل الثلاثة زار تل أبيب ثلاثة وتحدثوا عن «أمن إسرائيل» وحرص دول أوروبا والولايات المتحدة على وجودها واستقرارها وحقها في الدفاع ضد مخاطر تعتقد أنها تهددها. فالرئيس الأميركي جورج بوش أكد هذه المهمة في خطاب ألقاه في الكنيست. وفعلت الأمر نفسه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل. وذهب في الاتجاه نفسه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حين خاطب حكومة إيهود أولمرت من الكنيست مؤكدا حرص أوروبا والعالم على ضمان «أمن إسرائيل».

هذا التوافق على مسألة الأمن المعطوف على إجماع أوروبي - أميركي على إعطاء أهمية خاصة لضمان استقرار «إسرائيل» وتحصين وجودها من مخاطر نمو قوى إقليمية تهدد كيانها ومستقبلها يرسم ميدانيا تلك الاستراتيجية المشتركة التي توحد دول الغرب تحت سقف الأمن. فالهاجس الأمني يشكل رؤية يمكن من خلالها قراءة الكثير من المتغيرات الجغرافية والسياسية التي طرأت على منطقة «الشرق الأوسط» منذ الإعلان عن نهاية الحرب العراقية - الإيرانية التي امتدت نحو ثماني سنوات. فقبل تلك الحرب كانت «إسرائيل» تمثل الطرف الأقوى في المعادلة الإقليمية إلى درجة أن دول الغرب (أوروبا وأميركا) كانت تعتمد عليها في لعبة كسر التوازنات وتحطيم قوى تشكل مخاطر سياسية على أمن منطقة غنية بالنفط ومهمة في أدوارها الاستراتيجية (معابر ومضائق وممرات).

«إسرائيل» قبل العام 1988 كانت تلعب دور الوكيل الإقليمي لضمان أمن النفط وعدم تهديد مصالح الدول الكبرى بالفوضى أو بالانتفاضات التي تزعزع الاستقرار. فهي القوة المعتمدة تقليديا والدولة «المختارة» التي تحظى بالرعاية الاقتصادية والدعم العسكري والمساعدات المالية حتى تبقى في موقع الأقوى والقادر على تعطل نمو مراكز إقليمية يمكن أن تحدث ذاك الخلل في التوازن.

بعد العام 1988 بدأت «إسرائيل» تفقد تلك الوظيفة الأمنية وأخذ نفوذها القائم على معادلة القوة يتراجع لمصلحة نمو مراكز إقليمية اكتسبت خبرة قتالية وأسست صناعة عسكرية وجهزت قوات قادرة على المواجهة وتعديل التوازن الذي استقر منذ العام 1948 لمصلحة تل أبيب.

حرب الخليج الأولى (1980 - 1988) التي جلبت الدمار والخراب للمنطقة وأسقطت مئات آلاف الضحايا وحطمت مشروعات التنمية في إيران والعراق أنتجت في الجانب الآخر من الصورة قوة ثنائية إقليمية تمتلك من المعدات والجيوش والخبرات ما تعجز «إسرائيل» عن التصدي له أو تحمل نتائجه في حال قرر العراق أو إيران خوض مواجهة حاسمة.

هذا الواقع الجيوبولتيكي اكتشفته واشنطن باكرا، إذ أدركت المؤسسات آنذاك أن إمكانات صمود «إسرائيل» في حرب مقبلة تراجعت وهي أصبحت في موقع الأضعف في معادلة القوة. وفرض هذا التحول في موازين القوى إعادة قراءة للاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط». سابقا كانت واشنطن تسلح تل أبيب وتدربها وتغطي نفقاتها الدفاعية وتحدِّث معداتها وآلياتها لتقوم بمهمة الوكيل الأمني في إطار جغرافي يضمن استقرار المصالح الدولية. الآن، وبعد توقف الحرب العراقية - الإيرانية، أدركت واشنطن أن وظيفة الوكيل الإقليمي استنفدت أغراضها في اعتبار أن صاحب الوكالة أصبح في موقع الضعيف ويحتاج إلى مساعدة دولية لحمايته.

جاءت هذه التحولات في لحظة كان العالم يستعد لاستقبال انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكره الاشتراكي. هذا الحدث النوعي في تاريخيته ساهم في تغذية أفكار قومية تشجع على قيام قوى إقليمية بلعب دور تعبئة الفراغات الأمنية التي قد تظهر على الأرض في الكثير من الأمكنة.

هذا التحول في توازنات «الحرب الباردة» شجع الرئيس اليوغوسلافي آنذاك على كسر التوازن الذي تأسست عليه يوغوسلافيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فتقدم باتجاه إعادة توحيد يوغوسلافيا تحت قيادة الصرب. وبذريعة أن صربيا تشكل تلك القاعدة المركزية في الاتحاد شنت بلغراد حروبها القومية ضد الكروات والبوسنيين (المسلمين) والبوشناق بقصد إعادة ربط الاتحاد بشروط وحدوية صارمة وكانت النتيجة تفكك يوغوسلافيا وانهيارها وتوزعها إلى جمهوريات مستقلة بضمانات عسكرية أميركية وأطلسية.

العراق وقوته

الأمر نفسه تكرر مع الرئيس العراقي صدام حسين حين أخذ يطرح شعارات وحدوية قومية تتجاوز في طموحاتها جغرافيا بلاد الرافدين. وخلال الفترة الفاصلة بين حرب الخليج الأولى والبدء في تأسيس حرب الخليج الثانية اندفع الرئيس العراقي باتجاه الانزلاق نحو مقولة إن القوى الإقليمية هي البديل السياسي عن المراكز الدولية في لحظة كانت ثنائية «الحرب الباردة» تشهد حالات تفكك وانحسار عن الساحة الأوروبية. وتحت ضغط التحولات الدولية والإقليمية قرأ الرئيس العراقي المتغيرات بمنظار غير دقيق في حساباته ورأى أن الولايات المتحدة منشغلة بأوروبا الشرقية بينما وكيلها الإقليمي أصبح في موقع الضعيف وغير القادر على الحماية أو المواجهة.

«أزمة الكويت» بحسب التوصيف الإعلامي اليورو - أميركي شكلت مناسبة إقليمية للتدخل الدولي والبدء ميدانيا في تعديل التعديل وتعطيل إمكانات نمو مراكز إقليمية تزعزع الاستقرار وتقوِّض المصالح الكبرى. آنذاك كان جورج بوش الأب على قناعة بأن «إسرائيل» خسرت موقعها في التوازن الاستراتيجي وباتت بحاجة إلى حماية دولية لضمان أمنها بعد أن أصبحت غير قادرة على تلبية المهمات ولا تستطيع كسر المعادلات كما فعلت خلال عقود وسنوات.

تحطيم قوة العراق العسكرية في حرب الخليج الثانية (1990 - 1991) ساهم في تعديل التوازن من جديد لمصلحة «إسرائيل» وأدى إلى توليد معادلة مختلفة عن السابق. فالمعادلة الجديدة التي حاولت واشنطن تأسيسها اعتمدت على قاعدتين: الأولى، تشجيع تل أبيب على رفض مبادرات السلام في اعتبار أن الأقوى لا يخضع لشروط الأضعف. الثانية، تجميد الوكالة الإسرائيلية لرعاية الأمن الإقليمي في اعتبار أن القوة الأميركية أصبحت هي الطرف الضامن مباشرة للاستقرار والحامي للمصالح الدولية.

شكلت القوة الأميركية تلك المظلة الدولية لمنطقة «الشرق الأوسط» وبات دور واشنطن الأقوى في المعادلة الإقليمية. ولعب هذا المتحول في توازن القوى دوره في اطمئنان «إسرائيل» وتقلص مخاوفها من تهديدات المحيط الجغرافي ودول الجوار. وتطور الاسترخاء الإسرائيلي إلى درجة قصوى من الانحدار حين جاء جورج بوش الابن إلى السلطة وقرر استكمال معركة تقويض العراق وتحطيمه واحتلاله مباشرة بعد 13 سنة من الحصار والعقوبات.

حرب الخليج الثالثة كانت رسالة أميركية واضحة للدول العربية ودول الجوار العراقية بأن «أمن إسرائيل» فوق الجميع وأن السلام العادل الذي نصت عليه قمة بيروت في العام 2002 لا مجال لتطبيقه في معادلة القوة الجديدة. إلا أن حسابات الكمبيوتر لم تتوافق مع سيكولوجية شعوب المنطقة، إذ واجه الاحتلال الأميركي «مقاومات»، كذلك لم تنكسر قوة الممانعة التي ظهرت في أكثر من مكان وبرزت بوضوح في فلسطين ولبنان.

الآن وبعد تجربة تواصلت ميدانيا أكثر من خمس سنوات عادت نغمة «أمن إسرائيل» وأخذت اسطوانة ضمان قوة تل أبيب واستقرارها وحقها بالتفوق على مجموع الدول العربية مضافا إليها إيران تتكرر في مختلف الأمكنة وعلى أعلى الدرجات والمستويات.

الخوف على «إسرائيل» وأمنها واستقرارها ووجودها تحول إلى هاجس مشترك يعاد تجديده دوريا. فالرئيس الأميركي أكد هذه المسألة. والمترشح إلى الرئاسة جدد التأكيد على الأمر. ورئيس الوزراء البريطاني أشار إلى الموضوع. كذلك الرئيس الفرنسي. وقبله تطرقت المستشارة الألمانية إلى الموضوع القديم - الجديد. الكل خائف ومتخوف على «أمن إسرائيل» وتفوقها واستقرارها وضمان وجودها ودورها في المستقبل.

هذه العودة التكرارية إلى مسألة «أمن إسرائيل» بعد غياب مؤقت، تشير إلى بدء تشكل مظلة دولية تدفع باتجاه تجديد فكرة الحماية بذريعة أن «الوكيل الإقليمي» عاد مجددا إلى احتلال موقع الطرف الأضعف في معادلة القوة وتوازن القوى العسكرية. ومثل هذا النوع من الإشارات القريبة والبعيدة ينبه إلى ضرورة توخي الحذر وعدم التورط في قراءات خاطئة وحسابات أيديولوجية تشجع القوى الإقليمية نحو الانزلاق في مغامرات تشبه كثيرا تلك الخطوات الناقصة وغير المدروسة التي أقدم عليها الرئيسان اليوغوسلافي والعراقي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2147 - الثلثاء 22 يوليو 2008م الموافق 18 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً