العدد 2150 - الجمعة 25 يوليو 2008م الموافق 21 رجب 1429هـ

القنوات الفضائية تتحدى ذكاء وحرية المشاهد

قبل أن تظهر الفضائيات العربية كانت غالبية الأشياء راكدة وثابتة. فمشاهدة التلفزيون محصورة بما تبثه القنوات الرسمية، وإن فقدت الرعاية الرسمية الصارمة كما في لبنان فلم يكن هناك سوى البث الأرضي. البرامج التي تعرضها القنوات الرسمية والأرضية كانت هي الأخرى محصورة بمجموعة مشاهدين من فئة واحدة وبلد واحد أيضا. أما الحصار الأكثر إثارة فقد كان من نصيب المذيعين ومقدمي البرامج، فحتى الذين يحظون بتميز وإطلالة رائعة على تلك القنوات كانوا مضطرين إلى التعامل بنمط معين تفرضه الأعراف والقوانين الرسمية. لا تنتهي جردة الحصار عند هذا الحد، فالمشاهدون كانوا محاصرين أكثر وليست لديهم خيارات سوى من يملك منهم أموالا لتلقي بث بعض القنوات عبر ما يطلق عليه بالكابل الخاص.

مع انطلاقة البث الفضائي فكت أغلال هذا الحصار، أو فكت أكثر أغلاله، وأصبحت القنوات التي تبث في الفضاء بعدد المشاهدين، بل أصبح بمقدور أي فرد ميسور الحال أن يؤسس لنفسه قناة خاصة. الركود الذي كان سائدا تحوّل إلى حركة دائمة، وفي كثير من الأحيان تأخذ تلك الحركة طابعا مزعجا بشتى أطياف الإزعاج. والثبات انتقل بدوره أيضا إلى سلسلة لا متناهية من الإثارة والتنقل إلى درجة الإصابة باليأس والشعور بالضعف عن متابعة كل ما يطرح.

المستفيد الأكبر من ثورة البث الفضائي كانت شركات الإعلان والإنتاج التي تكاثرت وتناسلت وانشقت على نفسها، إلا أنها ضاعفت أموالها وأرباحها بصورة خيالية يصعب قراءة أرقامها. يلي ذلك المذيعون ومقدمو البرامج الذين اشتد عليهم الطلب ووجدت شركات ومعاهد خاصة لتخريج مذيعين بمواصفات خاصة يصلحون لجميع البرامج المقدمة عبر الفضائيات المتنوعة، فمن لم يحالفه الحظ في الحصول على وظيفة في قناة معروفة أو لا تتوافر فيه مواصفات تقديم برامج جادة، فيمكنه الالتحاق بفضائيات التسلية وغيرها... فالمهم أن تكون مذيعا وفقط.

المستفيد الأخير من قائمة المستفيدين، ولكن من دون أرباح مالية، هو المشاهد الذي بإمكانه أن يمارس الحرية في المتابعة والحرية في الاختيار والحرية في المشاهدة. هو المستفيد الأخير إذا كان فردا، وإن كان جزءا من أسرة فلن يكون كذلك. فصخب البرامج ومشكلاتها المتعاقبة، وفضائح بعض القنوات وطريقة تعاطيها مع المشاهدين، وانتشار الظواهر السلبية كالإدمان على المشاهدة أو المشاركة في المسابقات... وغير ذلك، جعل المشاهد مأسورا ومحاصرا من جديد.

المهتمون بقضايا الإعلام يؤكدون أن «فك الحصار الإعلامي» صنع جزءا من الفوضى في الفضائيات العربية، لكنه أيضا صنع حصارا جديدا وأغلفة مبتكرة لما يطلقون عليه «الفرد العالمي» الذي يخضع لمؤثرات واحدة للحصول على نتائج متشابهة في كل بقاع العالم. أما القائمون على صنع هذا الفرد العالمي فيعتمدون على مسلمة «غباء» المشاهد وقوة رغباته التي لا حصر لها. المنافسة الدائرة أصبحت تبحث عن مواقع الذكاء ومواقع الغباء بدلا من مواقع الحرية، فالقنوات الفضائية بشتى أنواعها وسياساتها تطرح تحديا على المشاهد العربي وتراهن على خسارته أمامها. وبدوره، المشاهد العربي يسعى إلى أن يكون قويا أمام هذا التحدي غير المتكافئ، فكل ما يملكه المشاهد هو الإعراض عن المتابعة أو المشاركة، وهو لايزال غير قادر على الدخول كشريك في صناعة هذه القنوات وصناعة برامجها.

شكاوى الأفراد من بعض القنوات ومن بعض ما تعرضه، وقدرتهم على التمييز بين المذيعين ومقدمي البرامج، لا يدل على غباء أو سطحية المشاهدين أو قسم كبير منهم، إذ لن نفتقد مجموعة أغبياء وسطحيين تتكسب شركات الإعلان والإنتاج من خلالهم، وإنما هو دليل على ذكاء فطري وخبرات متتالية متراكمة مرت على المشاهد العربي.

العدد 2150 - الجمعة 25 يوليو 2008م الموافق 21 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً