العدد 2151 - السبت 26 يوليو 2008م الموافق 22 رجب 1429هـ

لبنان... بين «القبرصة» و«العرقنة»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل 34 عاما أقدمت مجموعة من الضباط بدعم من النظام العسكري في اليونان على تنفيذ انقلاب ضد النظام الجمهوري في قبرص الذي كان يرأسه المطران مكاريوس. الانقلاب العسكري القبرصي أحدث متغيرات إقليمية وأعاد إلى المشهد السياسي في شرق المتوسط ذكريات الصراع اليوناني - التركي والانقسام الديني المسلم - المسيحي الذي تلاشى نسبيا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في العام 1918.

الانقلاب العسكري الذي قامت به مجموعة من الضباط ضد رئيس دولة علمانية يقودها رجل دين يتمتع باحترام شعبه ويمتاز بسمعة دولية في أيامه شكّل ذريعة للانتقام من الأقلية المسلمة في الجزيرة ما أعطى المبرر السياسي لتركيا بإعلان الحرب وتنفيذ هجوم بحري - بري أدى إلى احتلال الشطر الشمالي من قبرص بقصد حماية المسلمين من طغيان الغالبية المسيحية.

آنذاك كان العالم و«الشرق الأوسط» في العام 1974 يمران في تحولات جيوبوليتيكية ستترك آثارها على المنطقة ولن تتوقف تداعياتها حتى الآن. فمن جانب «الشرق الأوسط» كان العالم العربي يعيش فضاءات حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 وما أنتجته من زيادة حادة في أسعار النفط (الطفرة الأولى) معطوفة على تفاهمات حدودية بين مصر وسورية و«إسرائيل» جرت بإشراف وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر. ومن جانب العالم كانت الولايات المتحدة تستعد للإعلان عن انسحابها من فيتنام وجنوب شرق آسيا في وقت ظهر الاتحاد السوفياتي وكأنه القوة العظمى التي بدأت تكتسح القارات والمحيطات وصولا إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط.

الانقلاب العسكري في قبرص شجّع على خطوات أحدثت متغيرات إقليمية كانت أوسع من جغرافية جزيرة صغيرة. فالجزيرة على صغر مساحتها كانت تكثف آنذاك مجموعة توازنات استقرت عليها المنطقة بعد انهيار السلطنة العثمانية ودخول المشرق العربي تحت مظلة الانتداب البريطاني - الفرنسي.

قبرص آنذاك كانت تحتضن مجموعة تعارضات تتقاطع مصلحيا في داخلها. فهي من جهة يونانية مسيحية (أرثوذكسية) تتكلم اللغة اليونانية. ومن جانب تركية مسلمة (بقايا العثمانية) تتكلم التركية. ومن جانب بريطانية تخضع لنفوذ الانتداب وحمايته الأمنية (قواعد عسكرية ومراكز تنصت على دول المشرق العربي). ومن جانب تشكل جزيرة متقدمة في الشرق العربي - الإسلامي وتمتاز بوجود كنيسة أرثوذكسية منفتحة وقريبة مذهبيا من الكنيسة الروسية التي أقفلت الثورة البلشفية (الشيوعية) أبوابها منذ العام 1917.

كل هذه التعقيدات أفضت إلى اندلاع أزمة كبرى. فالدول الأوروبية عارضت الانقلاب واتهمت الزمرة العسكرية في اليونان بتنظيمه لحسابات غير منظورة وربما تكون لمصلحة السوفيات. ودول العالم الغربي (الأوروبي - الأميركي) استنكرت الإطاحة بالمطران مكاريوس ورفضت الاعتراف بالانقلاب وطالبت بعودة الشرعية الدستورية إلى موقعها الأصلي. إلا ان دخول تركيا العلمانية القومية آنذاك على خط الأزمة واحتلالها الجزء الشمالي من الجزيرة قلب المعادلة فأدى الهجوم العسكري (البري - البحري) إلى إسقاط مجموعة الضباط وإفشال الانقلاب ما ساهم في تسريع عودة المطران مكاريوس إلى الحكم وبالتالي انهيار النظام العسكري في اليونان وعودة الجمهوريين إلى أثينا.

هذا التحول السريع أحدث مجموعة فراغات أمنية لا تزال قائمة حتى الآن. فالانقلاب اليوناني الذي استهدف توسيع سلطة الزمرة العسكرية في أثينا انتهى بسقوطهم بعد فشلهم في السيطرة على قبرص. وانقسام الجزيرة إلى شمالية (تركية - مسلمة) وجنوبية (يونانية - مسيحية) أضعف سلطة المطران مكاريوس المعتدلة في توجهاتها وأنتج سياسة معادية للأتراك أخذت تتغذى ايديولوجيا من ذكريات تاريخ طويل من الصراع الديني. وتعزز الموقف القبرصي الجديد من خلال ذاك الدعم الذي حصلت عليه المجموعة اليونانية (المسيحية الارثوذكسية) من دول العالم. فالأمم المتحدة رفضت التقسيم وطالبت أنقرة العلمانية القومية آنذاك بسحب قواتها واتخذت سلسلة قرارات بمقاطعة الجزء الشمالي من الجزيرة وعدم التعامل معه سياسيا واقتصاديا.

أسوأ ما في الأزمة القبرصية آنذاك أنها أحيت انقسامات دينية ومذهبية معطوفة على ذكريات تاريخية. فالانقلاب الذي نفذته مجموعة من الضباط استهدف المطران مكاريوس ولكنه ميدانيا انزلق عن مقاصده السياسية وتحول إلى مواجهة ضد المسلمين الأتراك فأدى الأمر إلى انقسام الجزيرة وتوتر العلاقات بين اليونان وتركيا ودخول منطقة المشرق العربي في عاصفة دولية (حرب أكتوبر وطفرة النفط) وما أنتجته من ترتيبات إقليمية أشرفت على تنظيمها الولايات المتحدة في جبهتي الجولان والسويس.

لبنان القبرصي

كل هذه الفضاءات الدولية - الإقليمية التي تولدت عن الأزمة القبرصية أحاطت آنذاك بالكيان اللبناني من مختلف الجهات. فالجبهة السورية - الإسرائيلية أقفلت رسميا وبرعاية أميركية في العام 1974. والجبهة المصرية - الإسرائيلية دخلت في مفاوضات سلمية انتهت إلى توقيع اتفاقات كامب ديفيد. وجبهة النفط رفعت درجة العداء العنصري ضد العرب والمسلمين بذريعة ان ارتفاع أسعار هذه المادة أدى إلى موجة من التضخم العالمي وأعطى الدول الخليجية فوائض مالية تفوق حاجة السوق العربية إليها. وجبهة اليونان - تركيا أثارت موجة من الكراهية الدينية أعطت ثمارها السلبية في بلاد الأرز. وبلاد الأرز آنذاك كانت تمر في فترة قلق أمني معطوف على ازدهار مالي في اعتبار بيروت تشكل ذاك المصب لفائض النفط العربي والمعبر الذي تمر منه خطوط التجارة (الترانزيت).

أزمة قبرص كانت من المؤشرات الإقليمية التي فتحت باب الحرب على مصراعيه في لبنان. فالأزمة القبرصة انتهت بسرعة ونجحت الدول الكبرى في احتواء تداعياتها بين تركيا واليونان من دون ان تتوصل إلى حل دائم لمشكلة التقسيم. فالتقسيم في الجزيرة تحول إلى أمر واقع في انتظار معالجته سلميا تحت مظلة دولية - إقليمية مغايرة لتلك المعادلة التي استقر عليها شرق المتوسط في العام 1974.

احتواء أزمة قبرص لم يمنع من تسرب عناصرها المشعة من الجزيرة إلى لبنان. آنذاك كانت بلاد الأرز جاهزة للانفجار الأهلي في الداخل والحدودي في مواجهة «إسرائيل». وبعد سنة تقريبا ارتحلت العواصف الدولية والإقليمية إلى لبنان في العام 1975 وبدأ الكلام في الأسابيع الأولى على الحرب عن مشروع «قبرصة». «القبرصة» في تلك الفترة تحولت إلى مفردة سياسية تختصر الكثير من الرموز والإشارات. فهي تعني التقسيم الجغرافي (شمال/ جنوب) وهي تعني التفكيك الديني (مسيحي/ مسلم) وهي تعني ساحة مفتوحة للاصطراع الأهلي المعطوف إقليميا على توجهات ليست بعيدة عن استراتيجيات دولية تأسست بفعل الصراع العربي - الإسرائيلي وانحصار المقاومة الفلسطينية في الدائرة اللبنانية.

«قبرصة لبنان» شكلت فكرة سياسية أخذ بعض الفرقاء ينادون بها بصفتها تساعد على ضبط إيقاع الحرب ومحاصرة الفتنة ومنعها من الانتقال أو التمدد. إلا أن حسابات «القبرصة» لم تتوافق مع تعقيدات بلاد الأرز وتضاريس لبنان الجغرافية والدينية والمذهبية والطائفية. فلبنان ليس جزيرة ويحتضن مجموعات أهلية (أكثريات وأقليات) ليست أكثرية بالمطلق وهي أقلية بالنسبة. وبسبب فشل مشروع «القبرصة» بدأت الفكرة تغيب تباعا عن المسرح لتظهر مكانها «اللبننة» بعد أن طالت الأزمة زمنيا وتواصلت حلقاتها من دون انقطاع من العام 1975 إلى العام 1990 (اتفاق الطائف وعودة مشروع الدولة الطائفية الواحدة).

انتهت الأزمة القبرصية عسكريا في أسابيع إلا أنها سياسيا استمرت تتداعى إلى الآن. أما الأزمة اللبنانية فإنها أخذت 15 سنة للتوافق ثم عادت «اللبننة» للانفجار أهليا وفق نموذج جديد أسسه الاحتلال الأميركي في العراق. لبنان الآن يعيش فترة انتظارية (هدنة طوائف) للتوافق على حسم خياراته السياسية بين القبرصة (التقسيم الجغرافي) والعرقنة (التفكيك المذهبي). وحتى تتوضح معالم الصورة الدولية - الإقليمية الجاري إعدادها الآن وراء الكواليس لابد من مراقبة المشهد القبرصي من جديد بعد جمود استمر 34 عاما.

قبرص الآن بدأت بالانتقال من مرحلة التقسيم إلى طور يعيد تحديث العلاقات الثنائية المأزومة تقليديا بين المسلمين الأتراك والمسيحيين اليونان. وهذا المشهد التوحيدي الذي تمظهر بروتوكوليا في لقاء حصل يوم الجمعة الماضي في العاصمة نيقوسيا (منشطرة إلى قسمين) بين الرئيس ديمتريس خريستوفياس وزعيم الأقلية المسلمة محمد علي طلعت أفضى إلى تفاهم على بدء مفاوضات لتوحيد الجزيرة في موعد تم تحديده في 3 سبتمبر/ أيلول المقبل على أمل أن يؤدي الأمر إلى عودة الوحدة إلى قبرص قبل نهاية العام الجاري برعاية دولية تشرف على ضبطها الأمم المتحدة.

هل يفتح اللقاء القبرصي (اليوناني - التركي) باب الأمل بعد أن كانت الأزمة القبرصية نذير خراب ودمار على بلاد الأرز؟ لبنان بعد 33 سنة من الحروب الدائمة (الصغيرة أو الكبيرة) تخطى «القبرصة» وتجاوز «اللبننة» وبات على خطوات ليست طويلة من «العرقنة». وهذا العبور الزمني من طور القبرصة (التقسيم الجغرافي) إلى احتمال الدخول في طور العرقنة (التفكك المذهبي) يخالف في مجراه التاريخي - الجغرافي تلك المعادلة التي تأسست عليها الأزمة القبرصية. المشكلة اللبنانية أوسع وأعمق وأخطر وهي تحتاج فعلا إلى آليات معقدة لمنعها من الانفجار وانزلاقها بسرعة من المشهد القبرصي إلى المشهد العراقي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2151 - السبت 26 يوليو 2008م الموافق 22 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً