العدد 2169 - الأربعاء 13 أغسطس 2008م الموافق 10 شعبان 1429هـ

سيرة لاجئ فلسطيني في فلسطين

عن دار رياض الريس للطباعة والنشر، صدر كتاب محمود درويش تحت عنوان «في حضرة الغياب»، وهو عبارة عن ملمحة نثرية، ذيلها بكلمة «نص»، يتضمن الكتاب 181 صفحة من القطع المتوسط، اعتبر بعض النقاد أن نص محمود درويش سيرة المنفى، والوطن المسكون بالمنفى، سيرة أسئلة كثيرة وقضية تستمر في طريقها نحو المأساة، لكن هل يعد كتاب درويش الأخيرة مقدمة توجه مختلف لدى درويش؟ أم هو شكل آخر يقترحه ويصنفه بشكل مقاطع، ليجر الآخرين إلى تصنيف أشكالهم بنفس القدرة، كل هذه الأسئلة لن نجد لها اجابة، فقد تحقق عنوانه عليه، فوداعا لحضرة غيابك يا درويش.

ولد درويش في حضن قرية تدعى (البروة) العام 1942م (تقوم مكانها اليوم قرية أحيهود، تقع 12.5 كم شرق ساحل سهل عكا)، ثم انتقل بمرافقة عائلته إلى لبنان خلال حرب 1948، هذا ما قاله عن نفسه، وهي مراحله الأولى من التهجير والتشريد، وهذا ما فعله أبناء قريته، حين انتقلوا إلى شمال فلسطين ثم إلى لبنان، ويذكر أن قدمه احتضنت أول تراب لبناني في قرية رميش، ليسكنوا بعد ذلك جزين، وفي هذه البقعة الصغيرة لامست عيونه أول شلال، إلا أن الثلج نزل عليهم فأخذهم ذلك لمكان آخر، إلى مكان يقال له الناعمة تقع بالقرب من الدامور، التي زرعت في ذاكرته حقول الموز والبحر، كان إذ ذاك يبلغ السادسة من عمره، شعر وعائلته بأنهم سيّاح على هذه المناطق، أو مواطنون بقيد الهجرة، لكن جيش الإنقاذ العربي أخرجهم من القرية ليواصل حرب التحرير، أو مقدمات الهزيمة، كان يعتقد أنه سيعود إلى قريته بعد انتهاء الحرب، لكن جده كان يدرك حكمة الهجرة والحرب، وانتقلت هذه العدوى لوالده، فتسللوا إلى شمال الجليل، يقودهم دليل فلسطيني، فكانوا لاجئين في فلسطين حتى علموا بأن قريتهم البروة لم تعد على خارطة الوجود. يقول درويش عن هذه الفترة: «قيل لي في مساء ذات يوم... الليلة نعود إلى فلسطين، وفي الليل وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان الوعرة كنا نسير أنا وأحد أعمامي ورجل آخر هو الدليل، في الصباح وجدت نفسي أصطدم بجدار فولاذي من خيبة الأمل: أنا الآن في فلسطين الموعودة؟! ولكن أين هي؟ فلم أعد إلى بيتي، فقد أدركت بصعوبة بالغة أن القرية هدمت وحرقت».

حتى أنهم وجدوا صعوبة في الحصول على بطاقات إقامة، هذه فلسطين التي لم تعط أبنائها هويتهم، وغيرت اسمها بعد ذلك، وقد وصفتهم فلسطين الجديدة بالحاضرين الغيّاب، لأنهم أجساد لا تحمل أوراقا رسمية، لذلك فلا يحق لهم المطالبة بأملاكهم، ولكن يحق لهم أن يكونوا لاجئين فقط.

حيفا هي التي عانقت نشأته، علمته أن يلمس بداية نضوج جسده، وفيها كان له بيت، لامست حيفا جسده عشر سنين، أنهى خلالها دراسته الثانوية، فأخذته الصحافة، وانضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، غير أنه كان ممنوعا من مغادرة حيفا، فمنحته فلسطينه الجديدة بطاقة حمراء ثم زرقاء، كانت بمثابة بطاقة إقامة في وطنه، ثم منع من مغادرة منزله منذ عام 1967 حتى عام 1970، كان الدرك له حق التحقق من وجوده في المنزل متى ما أرادوا، وخلال هذه الفترة اعتقل أكثر من مرة، وسجن دون محاكمة، مما دفعه لفكرة الخروج من حيفا، فكانت أبواب موسكو مشرعة لأحلام صدره وحزنه.

وقع درويش وأهله في منطقة اللامكان، فقد أطلق عليهم الإسرائيليون أسم العرب، وسموهم العرب فلسطينيون، ولسخرية القدر لم تكن هناك مقاطعة على الأسماء الإسرائيلية فأسموهم عرب فلسطين، وقد تم بذلك إدراج أسماء جديدة لهم، فكانوا عرب 48 وفلسطينيو 48 أو فلسطينيو أوسلو بعد ذلك، يقول درويش إننا صرنا أرقاما وأننا محقّبون جيدا.

درويش المولع بفلسطين يبلغ الآن السادسة والستين وهو يغادر، وخلال ثلث هذه المدة حشر درويش في زاوية شعر النضال، أو شاعر المقاومة، في بعض الأحيان أحس درويش بهذا الثقل وذلك ما دفعه للقول بأنه شاعر فقط، ويصفه صديقه الذي مضى عنه سريعا المفكر العربي ادوارد سعيد أنه أروع شاعر عربي، هذا الشاعر المعجون بالعربية كان يقرأ بالإنجليزية والفرنسية والعبرية، يقول أنه تأثر بآرثر رامبو، وقد ترجمت أعماله لأكثر من لغة، فقد قامت زوجته رنا قباني بترجمة جزء من أعماله إلى الإنجليزية.

ثم أصبحت بيروت الأنثى والوطن والشعر، بيروت التي تقاسم معها الحرب الأهلية، وحمل إليها الخبز ليلا من يدي أمه، وحمل إليها مديحا للظل العالي، كان درويش في أوج غضبه على كل شيء، في هذه المدينة الرائعة عمل درويش مع منظمة التحرير الفلسطينية، وما أن انتهى القصف حتى كانت القيادات الفلسطينية خارج دائرة الصراع، فتسلل درويش إلى باريس، وبعد ذلك تنقل بينها وبين تونس، وفي تونس اختلف مع أبو عمار حول مشروع أوسلو، فكان رفض درويش له واضحا وقويا، وقال بشأن ذلك: «إن هذا الاتفاق ليس عادلا؛ لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته الفلسطينية، ولا جغرافية هذه الهوية إنما يجعل الشعب الفلسطيني مطروحا أمام مرحلة تجريب انتقالي.. وقد أسفر الواقع والتجريب بعد ثلاث سنوات عن شيء أكثر مأساوية وأكثر سخرية، وهو أن نص أوسلو أفضل من الواقع الذي أنتجه هذا النص».

وقد شغل درويش بقصيدته عابرون في كلام عابر الكنيست الإسرائيلي، والتي يقول في مطلعها:

أيها المارون في الكلمات العابرة

احملوا أسمائكم وانصرفوا

واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا

وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة

و خذوا ما شئتم من صور،كي تعرفوا

أنكم لن تعرفوا

كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء.

كانت قصائد درويش حرب أخرى، لها قواعدها وخنادقها وجنودها، كانت حرب الكلمة، وحرب المعنى والهوية، تغنى بقصائده الكثير من المغنين، منهم الفنان مارسيل خليفة، والفنانة ماجدة الرومي والفنانة أصالة، عرف درويش كشاعر تتمتع نصوصه بالغنائية، سواء من حيث رقص التفعيلة في نصوصه أو من حيث كثافة الشاعرية في صوره الشعرية، درويش يعد الآن من أكبر شعراء الوطن العربي، وأكثرهم شعبية، ففي بيروت وحدها حضره أكثر من 25000، وتوزع مجموعاته وتترجم في أكثر دول العالم.

الشعر عند محمود درويش

يقول درويش عن لحظة الكتابة لديه: «أقرأ دائما. ولكن حين أكون منكبا على كتابة نصوص شعرية، وأنا من عادتي أن اكتب في الصباح، فإنني لا أقرأ قبل أن اكتب. أقرأ فقط ساعتين في الليل أو بعد الظهر، إذ مهما كانت الذاكرة محصنة من الاقتباس فأي قراءة قد تتغلغل في اللاوعي. أخاف أن تسقط مما قرأته أصداء في نصي الشعري، ومع أن كل النصوص هي كتابة على كتابة، فإن دخول ما ليس منك إليك يكون مباشرا إذا أنت قرأته قبل الكتابة مباشرة، لذلك لا أقرأ شعرا، بل موضوعات بعيدة كليا عن الشعر لكيلا يتداخل نصي مع النص القادم من مصدر آخر في لاوعيي، لكن مهما حمينا أنفسنا فإن كل نص لأي شاعر فيه نصوص لشعراء آخرين. الكتابة الشعرية كما قلت هي كتابة على كتابة. المهم أن تجد صوتك الخاص وتنفسك الخاص بعيدا عن هذه المؤثرات التي هي حتمية. لا يوجد شعر بدون تأثر وتبادل. المهم أن لا يكون التداخل مباشرا».

غير أنه بقي وفيا لشعر التفعيلة التي عرف به، وبقي وفيا للغنائية العالية في نصوصه، كان بعض الأحيان يخاف على نفسه من أرث الأسماء والألقاب، فيهرب إلى المواضيع التي تداخله كإنسان، إنسان محاصر بالموت، ولذلك أشهر سلاحه ضد الموت، وأعلن انتصار الفنون جميعها عليه، درويش لم يكن أقل أناقة من شعره، وآراؤه كانت محل جدل واسع، خصوصا ما دار حديثا من آراء حول الحداثة، ويقول درويش معلقا على الحداثة: «لست أتكلم عن حداثة عربية، الحداثة مفهوم شامل للمجتمع. عندنا تحققت الحداثة فقط في الشعر وربما في وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، لكن الحداثة هي إعادة النظر بالتراث والتاريخ ونقد الذات وفهم العالم الجديد، هذه لم تتحقق، لكن هل على الشعر أن ينتظر تحديث نفسه إلى أن تتم الحداثة بمعناها الشامل؟ نحن من دون حداثة غربية لا نعرف أن نناقش في الحداثة. ولا يمكن الحديث عن حداثة عربية بمعزل عن تأثرها بالحداثة الغربية. السؤال هو كيفية التأثر، هل هي نسخ، أم هضم واستيعاب».

العدد 2169 - الأربعاء 13 أغسطس 2008م الموافق 10 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً