العدد 2177 - الخميس 21 أغسطس 2008م الموافق 18 شعبان 1429هـ

الحنين إلى الماضي

في العصر الراهن أصبح الإنسان معزولا عن الأرض وعن الطبيعة تكاد تطحنه عجلة الزمن السريع، يعيش في صراع محموم مع حركة السير ودوائر الحكومة وتسديد الفواتير والإلتزامات العائلية ومتطلبات العمل. أصبحت الحياة معقدة وباهظة التكاليف وأصبح الفرد يعتمد على الغير حتى في أتفه أمور حياته. بل إن أسلوب الحياة المعاصر دفع المجتمع برمته إلى الإعتماد على المصادر والقوى الخارجية في تسيير أموره وتلبية حاجاته وأصبحنا نعاني من التبعية الإقتصادية والحضارية. حينما نختلس لحظات قليلة من وقتنا المزدحم ونجلس إلى كبار السن لنستمع إليهم يتحدثون نجد فرقا شاسعا بين عالمنا وعالمهم.

هم يتحدثون عن السفر والغوص ومغامرات البحر، عن البادية وحياة الصحراء المثيرة، عن حياة القرية بجمالها وبساطتها، عن التكاتف في الملمات والتعاون في قضاء الحاجات. حياة شريفة كلها حب وكفاح وشهامة وتضحيات، وكانت متطلبات الحياة البسيطة والقناعة والشيمة تكفل للإنسان حريته وكرامته وثقته بنفسه.

من هنا يتولد لدينا إحساس جماعي بالغربة ويصبح الحنين إلى الماضي والتشبث بأهدابه سمة من أبرز سمات العصر. بل إن الماضي يتحول إلى رمز وإلى وهم وعزاء ومهرب. حقا إنه لمما يلفت النظر ويسترعي الإنتباه هذا الإقبال الجماهيري المنقطع النظير على كل ما له علاقة بماضينا ومأثوراتنا وثقافتنا التقليدية وتاريخنا الإجتماعي الذي يصور كفاح الأجداد والناس البسطاء. ولعل هذا التعطش إلى الماضي يعكس ما يعانيه جيل النفط من غربة نفسية تتفاقم مع مرور الزمن وتزداد حدة بفعل الهجرة إلى المدن المزدحمة والتنشئة في أحضان الخادمات الأجنبيات على الحليب الإصطناعي بعيدا عن رعاية الأم وعطفها وصدرها الدافىء الحنون. ولعل أوضح دليل على ما نقول هذا التدفق الهائل من المطبوعات والبرامج الإعلامية التي تنضوي تحت ما يسمى «شعبية» أو «تقليدية». فهنالك المهرجانات الدورية والبرامج الإذاعية والتليفزيونية والصفحات الشعبية في الصحف والمجلات. ناهيك عن دواوين الشعر التي تعج بها الأسواق ومجاميع الأمثال والحكايات الشعبية، وغير ذلك من مصنفات المأثور الشعبي القولي والمادي والحركي.

ولكن لو ألقينا نظرة فاحصة على هذا الإنتاج الغزير لوجدناه في معظمه إنتاجا هشا ضحلا في مادته وفي طريقة جمعه، لا يشفي الغليل ولا يسد الحاجة. والجامعون أصناف. منهم المتحمسون من أشباه الأميين الذين يعرفون الكثير عن المأثور الشعبي والحياة التقليدية لكنهم، وياللأسف، لا يحذقون عملية النشر والتأليف فيأتي إنتاجهم غث المحتوى سيء الإخراج والتصنيف. وهناك المتاجرون الذين لا يعرفون شيئا على الإطلاق ولكن يحدوهم الطمع في الكسب المادي واستغلال الإقبال الجماهيري على كل ما له صلة بالشعب وتقاليده. وهنالك المدّعون والمتملقون والمزيفون الذين يشوهون صورة الماضي ويبلبلون أذهان الجيل الحاضر وأجيال المستقبل.

ولا نغالي إذا قلنا أن وسائل الإعلام ساهمت في تشويه الصورة وتكريس المفاهيم الخاطئة عن الماضي ومأثوراته. في نظر الكثير من رؤساء تحرير الصحف والمجلات ومن المسئولين عن البرامج الإذاعية والتليفزيونية يمثل المأثور الشعبي جانب الجهل والتخلف من حياتنا وحضارتنا لذلك يكلون أمر الإشراف على الصفحات والبرامج الشعبية إلى أناس دون المستوى المطلوب. والإعلاميون الذين يقدمون البرامج الشعبية ويحررون الصفحات الشعبية قلما ينزلون إلى الميدان ليستقوا مادتهم من منابعها الأصيلة ويستفيدون بالتحدث إلى أصحاب الحرف والإخباريين المتمكنين والجلوس إلى الرواة والمؤدين المتميزين.

ليس بخاف على أحد أن منطقة الخليج والجزيرة العربية - بل المنطقة العربية بأسرها - تمر بمرحلة تطور سريع وتغير جذري، وما لم نسارع بتدارك الموقف وجمع مأثوراتنا الشفهية بطريقة علمية مدروسة فسوف تصبح أثرا بعد عين وتنطمس معالم الماضي وتنطمس معها جذورنا وهويتنا وشخصيتنا.

وهنالك عقبات كأداء تقف حائلا دون تحقيق هذه المهمة الملحة أهمها ندرة الكفاءات الوطنية المؤهلة تأهيلا علميا للقيام بهذه المهمة الصعبة على الوجه الصحيح. ولا ننس تصدي جماعة من المثقفين والمفكرين النخبويين لأي جهود تبذل في هذا الصدد بادعاء أنها تكريس للجهل والتخلف وأنها تشجيع للعاميات ضد الفصحى وأنها دعوة للإقليمية على حساب الوحدة القومية.

وهكذا فإن من يريد أن يتناول المأثورات الشفهية من منطلق الأمانة العلمية والمسؤولية الوطنية لن يعدم من يتهمه بالانحياز القبلي أو الإقليمي وسوف يجد نفسه يخوض معركة متعددة الجبهات. المشكلة الأساسية التي نعاني منها في هذا الشأن أننا لا نزال نتعاطى مع هذه القضايا بحساسية مفرطة وسوء فهم شديد.

ولايزال الكثيرون منا يربطون بين الاهتمام بالثقافة التقليدية وبين النزعة الإقليمية من منطلق أنه لو اهتمت كل منطقة بإبراز ثقافتها المحلية لانفرط العقد وتمزق النسيج. لا يزال الكثيرون يفهمون الاهتمام بالثقافة المحلية على أنه بعث للنعرات القبلية وتكريس لعوامل التجزئة والقضاء على مفهوم الوحدة الوطنية والشعور المشترك وأنها قد تستغل من قوى خارجية لشق صفوفنا.

حينما كنا نعيش الحال الأمية الشفهية كانت المادة الشعبية تحل محل التاريخ وتعكس واقع الحياة اليومية وأحداثها المعاشة، لكن الصورة التي تقدمها قد تكون في بعض الأحوال صورة فاضحة ومحرجة تختلف عن تلك التي تحاول الأوساط الرسمية تمريرها، كما أن أغلبية الناس الآن يحاولون تجنبها ويتحاشون البحث فيها. والأدب الشعبي بطبيعته لا يخلو من العبث والشغب وهو يحمل مضامين خطيرة وقضايا ملتهبة قابلة للتفجر.

هذا الأدب ليس تمردا على قواعد اللغة الرسمية المدرسية (الفصحى) فقط. إنه في بعض نماذجه تمرد على كل المناهج المدرسية وعلى قواعد الالتزام والانضباط وعلى الرقابة الإعلامية وعلى وضعيات وحيثيات رسمية أخرى كثيرة. هذه الخطورة تجعل من الغباء تجاهل الأدب الشعبي وإنكاره بل ينبغي أخذه مأخذ الجد والتعامل معه بمسؤولية علمية ووفق منهجية مدروسة وإلا لانتقض جروحا تنزف منها الدماء.

لا شك أن التحول من مرحلة النظام القبلي والتمزق الإقليمي إلى مرحلة الوحدة الوطنية والسلطة المركزية يتطلب منا الحذر في التعامل مع مادة الثقافات التقليدية والآداب الشعبية الملغمة التي لو تفجرت ألغامها لعصفت بوحدتنا الوطنية. ولكن، في الوقت نفسه، لابد من التأكيد هنا أن الإهتمام الأكاديمي العلمي بآثار الماضي وآدابه وفنونه ليست مؤامرة خفية ولا نزعة إقليمية ولا دعوة إلى العامية، كما أنها أيضا ليست مجرد وسيلة للترفيه وتزجية الوقت.

إنها محاولة جادة مخلصة لإيجاد إطار فكري ومنهج تاريخي وتوجه علمي صحيح للتعامل مع ثقافتنا التقليدية ودراسة الماضي من جميع أبعاده والتعرف على مختلف أوجه الحياة فيه والاستفادة من ذلك في فهم الحاضر والمستقبل. وهذا يحتم علينا الإستعانة بالمأثورات الشعبية والمصادر الشفهية، وخصوصا في غياب الوثائق والمصادر الخطية.

العدد 2177 - الخميس 21 أغسطس 2008م الموافق 18 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً