العدد 2327 - الأحد 18 يناير 2009م الموافق 21 محرم 1430هـ

فلسطين بعد تقطيع أوصال غزة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أخطر من معركة حرب تقطيع أوصال غزة التي انتهت أمس بوقف النار من الجانبين هناك معركة إعادة بناء ما دمرته الحرب الأميركية - الإسرائيلية على القطاع. ما بعد العدوان أخطر من العدوان. فهذا القطاع الضيق في مساحته الجغرافية والكثيف السكان والفقير في موارده الطبيعية يعتمد بنسبة 80 في المئة على المعونات الدولية والمساعدات العربية والتحويلات المالية التي يرسلها أبناء القطاع في الخارج إلى عائلاتهم في الداخل. وبسبب اعتماد القطاع على «اقتصاد الاونروا» ستضطر الهيئات الأهلية والمؤسسات المدنية إلى تطوير علاقاتها مع المنظمات الدولية لتأمين الحد الأدنى من المواد الأولية والطبية للمحافظة على متطلبات الحياة اليومية.

بعد العدوان الذي دام 22 يوما ارتفعت مشكلات القطاع وتضاعفت حاجة السكان إلى المعونات في اعتبار أن حجم الدمار الذي ألحقته الآلة الحربية بالبنى التحتية فاق التوقعات وبات الأمر يتطلب وضع خريطة لإعادة الحياة إلى الشرايين المقطعة والمنازل المحطمة. فهناك الكثير من المدارس والمعاهد والمؤسسات والمستشفيات والمحطات والشركات والأحياء أصيبت بأضرار تحتاج إلى آلية دولية - عربية لإعادة إعمارها كليا أو جزئيا. وهناك الكثير من العائلات التي تدمرت منازلها ومواردها أو قضي على رب عملها ما يتطلب من الهيئات المسارعة في وضع خطة إنقاذ تسعف الأسر المنكوبة من حالات التفكك والانهيار.

هذا المشهد المأسوي يحتاج فعلا إلى برنامج شامل ومتكامل يلبي حاجات قطاع يعاني أصلا من مشكلات مزمنة ومتراكمة ومتوارثة منذ عام النكبة في 1948. فالقطاع الآن أصبح من النواحي العمرانية والمعيشية والاجتماعية أسوأ مما كان عليه قبل حرب تقطيع الأوصال التي نفذتها آلة القتل الأميركية - الإسرائيلية. وارتفاع نسبة المشكلات يقتضي في المقابل الفلسطيني أن تتوافر الاستعدادات الوطنية للتوحد والتعاضد والتعاون وتجاوز الخلافات على السلطة والتفرغ الميداني لتجديد الوحدة الفلسطينية التي أصيبت بأعراض وأضرار مؤلمة بعد رحيل القائد المؤسس ياسر عرفات.

الوحدة الفلسطينية تعتبر الرد التاريخي على العدوان الأميركي - الإسرائيلي في اعتبار أنها تشكل الإطار الوطني الضامن لعدم الانزلاق نحو اختلافات مصطنعة لا قيمة سياسية لها في مواجهة آلة الحرب التي لا تميز بين فصيل وآخر. وأخطر من العدوان يتمثل الآن في ارتداد تموجات الحرب إلى الداخل الفلسطيني. وتكرار السيناريو اللبناني الذي حصل بعد العدوان الأميركي - الإسرائيلي في صيف 2006 يشكل خطوة كارثية على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية لأن وقوع مثل هذا الاحتمال السلبي يعتبر نقطة تسجل لمصلحة تل ابيب التي تريد إثارة المعارك الداخلية بقصد إلهاء الفصائل عن الهدف المقبل من مشروع الاستيطان الصهيوني وخطة ترحيل بعض سكان الضفة إلى الأردن وتجميع البعض الآخر في مناطق تقع خارج خط التماس مع الكيان العبري.

بعد حرب تقطيع أوصال غزة هناك سؤال لابد أن تطرحه السلطة الفلسطينية والفصائل السياسية والمؤسسات الأهلية على طاولة الحوار الوطني: ماذا بعد تحطيم القطاع؟

سؤال ماذا تريد «إسرائيل» في المرحلة المقبلة يثير مجموعة أجوبة أخذت تتداولها مؤسسات البحث الأميركية التي تلعب دورها في التأثير على قرارات إدارة البيت الأبيض. المؤسسات الأميركية بدأت تبحث في مشروع إلغاء الهوية الفلسطينية من خلال تحطيم السلطة في الضفة بذريعة أن الشعب الفلسطيني منقسم وغير مؤهل نفسيا وثقافيا على تحمل مسئولياته السياسية. وتشكل هذه الذريعة جرس إنذار لابد من أخذه جديا في الاعتبار. وفكرة عدم امتلاك الشعب الفلسطيني مؤهلات رجال الدولة تعني عمليا وضع مؤسسات الضفة والقطاع تحت إدارة دولية وإشراف عربي ما سيؤدي إلى تفريغ السلطة وتسليم مسئولياتها وصلاحياتها لقوى «انتدابية» تأخذ على عاتقها مهمات تدريب وإعادة تأهيل الأجهزة لتكون على مستوى المتطلبات التي يحتاجها الناس عادة.

«إسرائيل» ومشروعها

«إسرائيل» الآن تعتبر من وجهة نظرها أنها حققت أغراضها الموضعية من العدوان المدمر على غزة. فالقطاع تحطم ونجحت في انتزاع هدنة مؤقتة ومن جانب واحد قد تمتد إلى نصف سنة أو سنة وأكثر. وبرأي تل ابيب أن هذه الفترة الزمنية تشكل فرصة ذهبية للتفرغ إلى الضفة الغربية وتفكيك السلطة الفلسطينية مستفيدة من حال الانقسام الأهلي الذي ولدته الحرب على غزة. فالمشروع الاستيطاني الذي تهتم تل ابيب بترتيبه يتركز الآن على الضفة لا القطاع في اعتبار أن غالبية المستوطنات موجودة في المناطق المتاخمة لرام الله وطولكرم وبيت لحم وجنين والخليل ونابلس ومحيط مدينة القدس. وضمن هذا الحزام الاستيطاني تريد تل ابيب اعتماد سياسية تفريغ (ترحيل سكاني) للمناطق حتى تصبح يهودية بالكامل. ومثل هذا المشروع الاقتلاعي يحتاج إلى خلافات فلسطينية لتغطيته وتبريره دوليا وإجبار البلدان العربية على تقبله عنوة.

ما بعد غزة أخطر مما حصل من دمار في غزة. فالمشروع الإسرائيلي يراهن الآن على متغيرات دولية يمكن أن يعتمد عليها لتمرير الكثير من مخططاته. واشنطن مثلا وضعت سيناريو للاتصالات السياسية العلنية مع دمشق وطهران بقصد تطوير التفاهمات «الفنية» و «التقنية» التي باشرتها إدارة جورج بوش منذ العام 2005. وتطوير التوافقات الأميركية مع إيران وسورية يعني فلسطينيا وضع القضية في ثلاجة بذريعة أن المسار الفلسطيني طويل وشائك ويحتاج إلى مؤسسات مؤهلة سياسيا لإدارته والإشراف عليه وضمان عدم انهياره.

الانفتاح الاميركي العلني في عهد باراك أوباما على دمشق وطهران يتطلب من واشنطن البدء في التعامل السياسي مع العاصمتين اعتمادا على تلك التفاهمات «الفنية» و«التقنية» التي تم التوافق عليها في عهد بوش وهي في مجموعها تشمل ملفات العراق ولبنان وفلسطين. عراقيا تبدو الأمور سائرة باتجاه الانسحاب الأميركي المتدرج وتموضع قوات الاحتلال في قواعد عسكرية تحت سقف التساكن مع النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين. وفي لبنان تبدو الأمور سائرة مؤقتا نحو تمديد فترة التعايش بين الدولة والمقاومة تحت سقف القرار الدولي 1701 الذي يضمن أمن «إسرائيل» من جانب ويعطي سورية بعض النفوذ السياسي على بلاد الأرز من جانب آخر.

يبقى الموضوع الفلسطيني وهو الأخطر في المشروع الأميركي خلال فترة أوباما. فالقضية الفلسطينية تعتبر أولوية في المشروع العربي، وهذه النقطة تشكل خط تماس تقليدي بين الدول العربية والولايات المتحدة ما يعني أن واشنطن ستضظر اللجوء إلى بدائل عملية للتهرب من الالتزامات الدولية والاتفاقات والتعهدات التي وعدت الإدارات السابقة بتأمينها. والتهرب الأميركي يتطلب اختراع أزمات وإثارة مشكلات لتعطيل مشروع مبادرة السلام العربية التي أقرت بالإجماع في قمة بيروت في العام 2002 وتجميد المسار الفلسطيني واستبداله بالمسار السوري بالتوازي مع المسار الإيراني.

فلسطين هي الضحية بعد حرب تقطيع أوصال غزة. والقضية المركزية ستتحول في عهد أوباما إلى ساحة تجاذبات إقليمية بدأت إرهاصاتها السياسية بالظهور من تحت أنقاض غزة وذاك العمران الذي تقوض بعد العدوان على القطاع. ما بعد غزة هو الأخطر والمشروع الاستيطاني الذي توغل في أراضي الضفة يرجح أن يسفر عن هيكل سياسي قد يؤدي إلى تقويض السلطة الفلسطينية وترحيلها بغية ادخال القضية في ثلاجة التجميد وربما التغييب عن المسرح القومي.

هذا الاحتمال القوي يجب الانتباه إليه فلسطينيا من خلال إعادة الاعتبار لمشروع الوحدة الوطنية القادر على إحباط خطة التقويض أو تخفيف تداعياتها على الأقل في مرحلة الإدارة الأميركية الجديدة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2327 - الأحد 18 يناير 2009م الموافق 21 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً