من سرق منديل عباس؟ سؤال وجهه مدرس الجغرافيا للطلاب وهو يوزع شهادات التفوق والنجاح بنهاية العام الدراسي، لذلك الطالب الثانوي القادم من إحدى المدن الحديثة والمشهور بثراه الزائد لدرجة أن غالبية الطلاب يغارون منه ويستعيرون منه أدواته المدرسية ولا يعيدونها إليه، إلى جانب ذلك فهو طالب مدلل من قبل أساتذته ليس بفضل ذكائه واجتهاده، وإنما بفضل المبالغ التي يتحصلون عليها من الدروس العلاجية الخاصة له، فمعلم العلوم مغادر فلة والده ومعلم الرياضيات شارعا للدخول، وهو كثير البكاء بين فترة وأخرى بسبب دلال والده معه وقسوة زملائه الطلاب معه ولتميزه عنهم في حالته المادية فهو ينحدر من عائلة فلسطينية ثرية، إذ يجلبه سائق العائلة كل صباح إلى المدرسة بينما زملاءه يقطعون الطرق والأزقة، وقد يحتجزون من قبل الصهاينة، حتى يصلون لمدرسة الحكمة الإعدادية التي عجز الدهان من دهنها لكثرة المدونات التي كتبت على جدرانها، مع آثار رصاص المطاط باقية وشاهدة أيضا فرضخت للحكمة والسكوت، في صيف شديد الاشتعال كمسيل الدموع يزكم أنوفهم أو يخنقهم، وفي شتاء قاس كقساوسة قلوب الصهاينة عليهم، وعندما ينزله سائقه معه فطوره الصباحي الخاص المتميز، بينما هم يتشاركون لشراء فطيرات الفلافل والجبن وقنينة الماء، وشنطته الجميلة التي يستبدلها والده كل عام كما تستبدل أميركا رؤساء القادة متى ما شاءت، بينما حقائبهم المدرسية إن سلمت من التمزق لم تسلم من السرقة أو من الحجز والاعتقال في حال الاشتباه من قبل الجنود المرتزقة، ولباسه المتميز وهندامه المرتب بينما زملاؤه قد لا يجدون قطرة ماء لغسل وجوههم ولا طاقة لترتيب هندامهم، بسبب القطع المستمر والحصار المفروض عليهم، والتفنن في تموج خصلات شعره تارة تسريحة أميركية، وأخرى كتناثرها على كتفيه.
- لكن ماذا كان الجواب ؟
الجواب تمثل في يوم الغضب الفلسطيني، إذ انبرى طالب طويل القامة من المقاعد الخلفية قائلا: ولماذا عباس؟ لماذا هذا التمييز يا أستاذ؟ ألم تسرق أدواتنا؟ ألم تصادر حقوقنا؟ فمن سأل عنا؟ فكل يوم لنا محاضرة عن عباس وعن أدواته؟ من سرق قلم عباس؟ من دفع عباس في طابور الصباح؟ ومن ركل عباس في حصة الرياضة؟ هل عباس هو همك اليومي وعنوان حياتك، وراتبك الشهري! أما نحن فلا أحد يسأل عنا وعن حالنا؟ ألا يكفينا ما نحن فيه؟ واليوم وفي نهاية العام وأنت لا تزال تحقق في سرقة منديل عباس! ماذا يعني لك منديل عباس؟ هل هو منديل ملكة بريطانيا فقد في يوم التتويج، أو معطف سيدة البيت الأبيض الأولى سقط في يوم التنصيب؟
هل كتب علينا أن نعيش هكذا قي عالم منحوس، ومجتمع معدوم، وموطن منكوب، ومدرسة آيلة للسقوط، وقضية معشعشة فوق الرفوف، على رغم كثرة الوصفات العربية التي قدمت لها والتحاليل المخبرية والعمليات الاستشهادية التي أجريت من أجلها، لكننا لا نزال مغتصبين مهجرين محاصرين مثقلين بالجراح والدماء، هل كتب علينا أن نعيش قضية «عباس» المدلل من جميع أساتذته عوضا عن قضيتنا، قضيتنا التي ملت من نشرها الصحف ومذيعو الأخبار، فأصبحت كحالة الطقس اليومي إما ممطر كمسيل الدموع حارق العيون أو حار شديد الجفاف كالحصار المفروض، أو هو يغلي كغليان البحر وارتفاع موجه، أو هو مغبر مصحوب برياح شديدة تتصاعد منه أبخرة حرق الإطارات والمركبات، حتى أصبحت قضيتنا يتاجر بها في الأسواق السوداء أو في فطور الصباح يرددها القادة العرب في كل منتدى ومؤتمر! أذهب وفتش عن حل لقضيتنا بدلا من أن تقضي وقتك تتعقب عباس في كل حركة كأنك حارسه الشخصي، هنا تجمعت وتظاهرت فلول الطلاب على ذاك الصف تستكشف خطاب حماس، وأما أستاذ الجغرافيا فوقف مذعورا حائرا بين طلابه التي تمثلت له كأنها قنابل موقوتة قد تشتعل في أية لحظة التي حولها هذا الطالب، إذ ختم عامه الدراسي بهذه القنبلة الذكية التي فجرها في هذا اليوم، فاتحا بذلك العقول النائمة والقلوب المريضة في مدرسته وطاويا بذلك صفحة تاريخية من الذل والخنوع، عندما عجز اللسان من أن ينطق عبارة الطرد لهذا الطالب وأي طرد فهو في آخر العام! وتوقف القلم عن أن يلغي نتائجه فهو من المتفوقين، أو حتى أن يضربه بسبب إهانته في حين صار بطلا تحمله أكتاف الطلاب، حيث عرى المدرسين المرتشين!
- لكن ماذا كان حال معلم الجغرافيا بعد خطاب حماس الطالب؟
فضل عدم الرد، لكي يسجل موقفا ضده يرفعه في العام القادم للمدرسة وللمدير بل لوزارة التربية بل للدولة! وخصوصا أن مدرستنا اشتهرت بحكمتها وحنكتها في معالجة مثل هذه الأمور، واسمها يشهد بذلك وهي المدرسة التي احتضنت مرور موكب الرئيسان الأميركي والفلسطيني التاريخي في العام الماضي 2008 عندما رفعت أعلام أميركا والصهاينة وفلسطين! ترحيبا واحتفاء بقدوم الرئيس الأميركي السابق ووعوده التي قطعها لنا بتدشين الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف! وقبل أن يقاطعه زميله معلم التاريخ وهو يرتشف فنجان قهوته في مقهى الحياة مستهزأ به وبحلمه في دولة فلسطينية وبما جرى له اليوم قاطعهما تلفزيون المقهى ليعلن نبأ عاجلا عن لاءات رئيس الحكومة العبرية: «لا مفاوضات لا لوقف الاستيطان، ولا مكان لدولة الفلسطينية». وقد شوهد الرئيس الفلسطيني وبعد هذا الخطاب المتشدد يبحث في جيوبه عن منديله الخاص كي يمسح به ماء وجه!
مهدي خليل
العدد 2507 - الجمعة 17 يوليو 2009م الموافق 24 رجب 1430هـ