العدد 2507 - الجمعة 17 يوليو 2009م الموافق 24 رجب 1430هـ

فتاوى في الوقت الضائع!

تطلُّ علينا بين الفينة والأخرى فتاوى غريبة، منها التي تُكفّر والتي تبيح إهراق دم المسلم المخالف، ومنها التي لا تُجوّز الدعاء لنصرة المقاومين على الصهاينة، وأُخرى تُحرّم انتخاب المرأة للمرأة، والكثير التي لا يسع المجال لسردها، إلا أنّ ما يعنينا منها لماذا صدرت تلك النوعية من الفتاوى أصلا، على رغم أثرها وضررها البالغيْن على الأمة؟ ومن المسئول عن تبعات تلك الفتاوى وما سيترتب عليها من محرّمات، ومخالفات صريحة للشرع وللقانون والتعدّي على الغير؟

من المعروف أن الفتوى ليست ملزمّة لدى الدول، قد تأخذ بها بعد إخضاعها للدراسة والتأكد من جدواها لتشريعاتها، إذ يفترض في قوانين الدول وتشريعاتها أن تكون مبنيّة على أسسّ مدروسة، وأن تنظر فيها للمصلحة العليا للوطن، وإن كانت حرّة في تشريعاتها التي تختارها، إلا أن نظام الفتوى هو اجتهاد شخصي، وكثير من الفتاوى قاصرة عن الدليل الذي يعتدّ به، وبعضها مخالفة تماما للأنظمة التي تتوافق عليها تشريعات الدول، ولأن الأنظمة يفترض أنها خاضعة لمنظومة قوانين، وأنظمة إجرائية لابدّ من اتخاذها قبل الشروع في تبنّي أي قانون، وإذا استثنينا المعقول من الفتاوى يظلّ النظام المتبّع قاصرا عن الإحاطة بكثير من الأمور، فمثال المواطنة التي تعني توافق التشريعات لتلاءم أطياف المجتمع، وحرية الرأي والمعتقد ما دام لا يعتدي على معتقدات الآخرين، بل على أية دولة أن تلتزم بالتشريعات الدولية، وذلك لأنها ملزمّة بالعهود والمواثيق الدولية التي وقعتها، والتي لا تتبنّى ولا تخضع لحكم الفتاوى اللهم إلا في الأمور التعبدية، أما إذا ما خالفت الدول تلك المنظومة فستكون في موضع المسائلة، إما من مؤسسات المجتمع المدني، أو من المنظمات الدولية التي ترصد الانتهاكات التي تحدثها القوانين غير المسئولة، وخاصة التي تنتهك فيها الحقوق الإنسانية لمواطنيها.

وعلى رغم ذلك يستغل البعض آلية الفتاوى بشكل سيئ للغاية، يتعدّى حدود التبنّي والاعتماد الشرعي، وتكون بعضها رسائل مبطنّة ترمي لأهداف لا علاقة لها بالشرع، وقد يكون إصدار الفتاوى لأهداف سياسية، أو للتخويف والتخوين وخلق البلبلّة، والمتابع النبيه لهذا النوع من الفتاوى يستطيع أن يدرك الغرض، إذ إنها لا تنسجم حتى مع روح العقيدة السمحة، وما صدور تلك الفتاوى إلا لأغراض محددّة، إما لإسكات صوت معارض، أو لتمرّير مشاريع مرفوضة من قبل الشعوب وتكون مُشتتّة لقواها، ويلحظ ذلك بوضوح في البلدان التي بها اختلافات مذهبية، أو تتعدد فيها الأديان والمذاهب كحال العراق ولبنان ومصر، ويلاحظ أن القائمين على هذه المشاريع إما علماء جهلة، وينظرون إلى الدين من ثقب ضيق الأفق، وإما أن يكونوا تحت إمرة سلطة تأمرهم بذلك، وفي كلا الحالتين تصبح هذه الفئة هي المسئول الأول عن تبعات فتواها، لأنها استغلت الشرع في أحكامها ضد الشرع نفسه.

لكن مع ذلك لا تزال نسبة كبيرة من الناس تأخذ بالفتوى مأخذ الجد، وإن كانت تلك الفتاوى تخالف الشرع والعقل والقانون، بل وقد تجعل نسبة من الناس المخدوعين هذه الفتاوى من أولوّيات الدين، ويعتبرون المفتي ممثلا لشرع الله، بغض النظر عن القواعد والأسس التي تقوم عليها فتواه، وذلك اعتقادا منهم بأنه إبراء للذمة، وتحقيق لرضا الله بالتزامهم بنصّ الفتوى، وكأنها آيات منزّلة من السماء لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، ويحسبون أنهم مع ذلك غير مسئولين وغير محاسبين، وأن القائلين بتلك الفتاوى هم أناس متورعون يريدون لهم الخير، والأدهى إن صاحبت تلك الأحكام التزامات يطلب تنفيذها، كوجوب التكفير والقتل والخصومة والتحقير وبثّ الفرقة.

لاشك أن الفتوى ليست ككرة القدم، فحينما يُسجّل فريق ما هدفا في الوقت الضائع، وقد يُحسم ذلك الهدف لمسجلّه وتنتهي النتيجة لصالحه، ويقبل الفريق الثاني الهزيمة بروح رياضيّة، فقواعد اللعبة تجبره على ذلك، إذ لو كان هو صاحب الهدف لخرج منتصرا، أما في حال الفتاوى التي تدعو إلى التكفير مثلا فهي ليست كذلك، فالأمر لا يحسم عند صدورها، بل يمتدّ أثرها إلى أبعد ما يتصوره حتى قائلها، والآمر له بتشهيرها ومنفذّها ومؤيدها والساكت عنها، وستكون فيروسا قاتلا ينسف كل دعائم المجتمع، وستكون لها امتدادات وارتدادات خطيرة ستدفع ثمنها أجيال متعاقبة، إلا إذا سُنّ قانون صريح يُجرّم ويعاقب صاحب كل فتوى تخرج الناس عن سماحة الدين، والتي لا تدعو إلاّ إلى نسف قواعد الوطن الواحد، والتعايش السلمي الذي تدعو إليه جميع الأديان من دون استثناء.

طاهر عبدالكريم

العدد 2507 - الجمعة 17 يوليو 2009م الموافق 24 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً