العدد 2222 - الأحد 05 أكتوبر 2008م الموافق 04 شوال 1429هـ

«الأخ الأكبر» يستنجد بالأسرة الدولية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

موجة الإفلاسات المالية التي اندلعت في السوق الأميركية ودفعت الإدارة إلى اتخاذ قرارات احترازية لمنع الانهيار الكبير بدأت ترتد على أوروبا وأخذت تطرق أبواب المصارف وشركات الرهن العقاري ومؤسسات الائتمان. هناك الكثير من الهيئات المالية بدأت تستشعر المخاطر وبعضها مهدد بالسقوط أو الإفلاس. والقمة التي انعقدت في باريس بدعوة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تعتبر ضربة استباقية في عالم المال لأنها جاءت في ضوء اهتزازات أخذت تصيب مصارف رهن ومؤسسات ائتمان في ألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ وبريطانيا والدنمارك وهولندا وغيرها.

هل تنجح أوروبا في تجاوز الأزمة المالية التي أخذت تدق أبوابها أم أن هناك ضريبة نقدية (ضخ السيولة في السوق) لابد لها أن تدفعها مهما حاولت التهرب من الاستحقاق؟

كل الاحتمالات تشير إلى أن الأزمة المالية ستتجه نحو دول الاتحاد الأوروبي مهما اتخذت العواصم من خطوات استباقية. فالسوق النقدية في أوروبا مرتبطة بقوة باقتصاد «الأخ الأكبر» وما يصيب الكبير سينعكس على صغار العائلة الرأسمالية.

هناك ضريبة اقتصادية ستدفعها أوروبا على رغم أن سياستها المالية مضبوطة نسبيا تحت سقف المراقبة والتوجيه. فالنظام المصرفي المتبع في دول الاتحاد يتمتع بحلقات حماية تضمن عدم انهياره السريع وتعطي الدولة صلاحية للتدخل لمنع المؤسسات من الإفلاس، إلا أن النظام العام لا يختلف في آلياته عن تلك الحلقات التي تتألف منها السلسلة في العالم. وحين يواجه «الأخ الأكبر» مشكلة تؤرق استقرار سوقه وتزعزع الثقة العالمية بهيكله الاقتصادي تصبح الأسرة الدولية في حال من القلق من انعكاس ذاك المشهد على شاشات البورصة ولوحات الأسهم.

الموجة المالية الارتدادية آتية إلى أوروبا مهما حاولت الأسرة الدولية إنعاش اقتصاد «الأخ الأكبر». ومن جهتها تبدو الإدارة الأميركية في سباق مع الوقت. هناك فترة محدودة (أربعة أسابيع) تفصلها عن الانتخابات الرئاسية. وهناك مدة لا تتجاوز الشهور الثلاثة على بدء مغادرة جورج بوش البيت الأبيض. وبين الاستحقاقين تعيش الإدارة لحظات صعبة تطمح أن تحقق خلالها نجاحات أخفقت أن تنجزها في السنوات الثماني الماضية. فالإدارة ضائعة في برمجة أولوياتها بعد أن انفتحت أمامها مجموعة أبواب في الداخل الأميركي كشفت الكثير من الثغرات في نظامها النقدي وهيكلها الاقتصادي.

أزمة أسواق المال التي عصفت بالمؤسسات والمصارف وشركات الائتمان والرهن العقاري وضعت الإدارة الأميركية في مواجهة مفتوحة يصعب عليها احتواء تداعياتها من دون أن تدفع كلفة سياسية مقابلة. واشنطن تطالب دول العالم بالتحرك لمساعدتها وهي تضغط على الاتحاد الأوروبي أن يتخذ خطوات «استباقية» بقصد الالتفاف لتجنب موجة ارتدادية قد تضرب ضفافها في القريب العاجل. كذلك أخذت واشنطن تطالب اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية واستراليا أن تنفق المال وتغرق الأسواق بالسيولة النقدية حتى لا تنجرف المؤسسات والمصارف وشركات الرهن إلى قاع المحيط وتنهار أنظمتها خوفا من مشهد تحطم «الأخ الأكبر».

حلقات السلسلة مترابطة ولا يستبعد أن تضرب الموجة الارتدادية بعض أسواق المال العربية بحدود نسبية ولكنها كافية لإنزال خسائر بالكثير من شركات الائتمان والرهن العقاري والصناديق السيادية وتلك الودائع المجمدة في المصارف الأميركية والأوروبية.

الولايات المتحدة تحولت إلى مشكلة، وهي بعد أن كانت دولة عظمى تقدم اقتصادها بوصفه «الأخ الأكبر» الذي يحتكر مفتاح الحلول لكل الأزمات بدأت الآن تتحول إلى عبء يستعطي الدول الأوروبية والآسيوية مده بالمساعدة المالية وإغراق الأسواق بالنقد تجنبا للسقوط في أخطاء وعثرات وثغرات ساهم الكبير في ارتكابها بحق الصغير. وحين ينهار «الأخ الأكبر» أمام الأسرة الدولية لابد أن تطالبه الأسرة بالتعويض ودفع المقابل السياسي ثمنا لخطط الإنقاذ.

الضربات النقدية الاستباقية التي قرر الاتحاد الأوروبي اتخاذها تيمنا بتلك التي وافق عليها الكونغرس الأميركي وقضت بضخ 700 مليار دولار في الأسواق لن تكون من دون مقابل سياسي. وقرار حقن قنوات المال بتلك السيولة الهائلة من الاحتياطات النقدية المجمعة في خزائن الدول والمصارف يتوقع ألا يمر من دون ارتدادات سياسية ستنعكس سلبا على هيبة «الأخ الأكبر» وتفرده بالقيادة والمبادرات من دون عودة للأسرة الدولية.

حتى الأمس القريب كانت الإدارة الأميركية تقدم الخطط الإنقاذية للدول الفقيرة والمسكينة وتغرقها بالنصائح والإرشادات وتضع لها مشروعات تنموية بذريعة أنها تشكل الإطار الصحيح والوحيد القادر على تطوير الاقتصادات ودفعها للتقدم نحو نموذج «الأخ الأكبر». والدول العربية نالت من تلك المواعظ النصيب الأكبر من الإهانات والبهدلة الايديولوجية التي عصفت بالمنطقة بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وارتدت عليها في موجات عسكرية متتالية أنهكت الشعوب في ضربات موجعة من أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين ولبنان... والحبل على الجرار.

أندية المستقبل

من يراجع خطابات الرئيس جورج بوش في تلك الفترة وتحديدا بعد تقويض العراق وتفكيكه في العام 2003 يرى مقدار الكم من الوعود البراقة التي أطل عليها من وراء مشاهد الدمار في بلاد الرافدين. آنذاك وعد «الأخ الأكبر» المنطقة بالرخاء والاستقرار والحرية والنمو والتقدم و»تمكين المرأة»، واعتذر عن السياسة الأميركية السابقة مبشرا بنظام يحرص على رعاية حقوق الإنسان وتوزيع عادل للثروة. لم يقتصر كلام بوش على الخطابات بل شجع ميدانيا على تأسيس «أندية» تبحث في المستقبل وتخطط الطرقات وتعبدها حتى تتوصل الشعوب العربية إلى سلالم الرقي بسهولة وبأسرع وقت ممكن. وفعلا عقدت بهذه المناسبة العظيمة الكثير من المؤتمرات في شرم الشيخ والبحر الميت والمنامة لمناقشة تلك السبل التي تعجل من سرعة التقدم حتى تستطيع الشعوب العربية أن تلعب دورها في السباق الكوني.

هناك الكثير من المحاضرات ألقيت في ندوات «أندية المستقبل» وكلها تضمنت شروحات ايديولوجية عن طبيعة نموذج «الأخ الأكبر» وحيويته الفائقة وقدراته الخلاقة وأنشطته الذكية في ابتكار الحلول وابتداع النظريات واجتراح المعجزات. فالمحاضرات مسجلة بالصوت والصورة ويمكن مراجعتها بالعودة إلى الأرشيف والمحفوظات والسجلات والعقود والاتفاقات التجارية. بعض تلك المناظرات بالغ في توقعاته، وبعضها بالغ في وصف سلبيات الاقتصادات العربية، وبعضها قدم مجموعة معالجات تدل على عدم معرفة أو اطلاع، وبعضها قدم وصفات طبية لأمراض لا يعاني منها العالم العربي، وبعضها استند على معلومات خاطئة واستخدم قراءات ملتوية واعتمد على أرقام غير دقيقة للتحدث عن مشكلات غير موجودة واقتراحات لا تتناسب مع أزمات حقيقية.

خبراء الاقتصاد في الولايات المتحدة يشبهون كثيرا خبراء السياسة. فهم يرتكبون الجريمة وبعدها يعتذرون عنها. قبل أن تحصل الكارثة يؤكدون أن سياستهم صحيحة وبعد أن تقع المصيبة يعتذرون عن خطأ سياستهم بحجة أنها لم تكن مقصودة وهي جاءت بسبب قلة الخبرة وضعف المعلومات وعدم الاطلاع والمعرفة.

الكوارث التي أنزلها خبراء السياسة في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان (وقريبا أو ربما في باكستان) عن غير قصد وتخطيط مسبق تبدو أنها أخذت تفعل فعلها في الداخل الأميركي على مستوى الاقتصاد وحلقات أسواق المال المحكومة بسيطرة «الأخ الأكبر» على مقاليد الأسرة الدولية.

الموجة الارتدادية بدأت تشق طريقها إلى شواطئ أوروبا. وقمة الاتحاد في باريس اتخذت خطوات استباقية للتخفيف من الأضرار المحتملة من العاصفة الأميركية. ولكن السؤال يبقى يدور حول المقابل السياسي الذي ستدفعه الإدارة الأميركية ثمنا للنجدة المالية التي بادرت الأسرة الدولية على اتخاذها لإنقاذ «الأخ الأكبر» من البهدلة الكونية. الثقة تزعزعت، والسمعة تلقت ضربة قوية، والهيبة التي جرفت معها العقول أصبحت في وضعية يصعب الدفاع عنها في «أندية المستقبل». وهذا كما يبدو بدأت إدارة بوش باكتشافه متأخرة على عادتها. وتلك الخطوات المتسارعة التي اتخذتها لإقفال ملف الإفلاس في الفترة الضائعة بين استحقاقين لابد أن تدفع ثمنها واشنطن في تقلص دورها الكبير وتأثيرها المستقل في السياسة الدولية من خلال القبول بمبدأ المشاركة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2222 - الأحد 05 أكتوبر 2008م الموافق 04 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً