يلذ لنا أن نحلق في هذه السانحة إلى حيث يأخذنا الشاعر حسين فخر بأحلامه في مقابلة تستقرئ الأطر التواصلية ما بين الباث والنص والمتلقي وما حولهم من أجواء وظِلال، ولننظر إلى أي مدى يمكن إعادة شيء من الإيمان بجدوى الشعر في زمن تتفتت فيه الذات لأشلاء، حيث لم يبق لها إلاه.
هكذا قطعنا المسافة التي كلما حاولنا عبرها أن نأخذ « فخر» إلى حبسة الضوء أخذنا إلى فسحة الظِلال حيث يلذ له أن يذهب دائما، ولعلها لعبته التي يجيدها والتي كلما قطعها أثار من الجلبة الكثير وعاد في كل مرة ليمسح الغبار المتطاير من معارك سابقة، لكنه لا ينسى دائما أن يعبئ كنانته بسهام قادمة ربما تطيش لكنه دائما يعيد تصويبها إلى حيث يريدها فلا تأخده إلى أي مرمى تقع فيه إلا بقدر التأويل.
وفي هذه المقابلة دخلنا مع الشاعر حسين فخر في أظلة نسجها لنفسه، فتساءلنا عن الحلم تارة، وعن وما خلفه من انشغالات إلى ماوراء استعاراته، وحدود كونه الشعري، ومدى تطويعه للغتة، إلى حواره الخفي أو الظاهر مع الرفقة الشعرية حيت تصعد النبرة ثم تهبط ثم تختفي ثم لاشيء إلا الغبار، ثم إلى إنجاز نصه عبر الذات أو الآخر، ثم إلى جدوى الشعر حيث لا ملاذ للذات إلا بالشعر الذي يعيد لها ألقها علّها تلتقط أشلاءها وتهب من وهدة رماد إلى آخر.
* إلى أين يأخذنا حسين فخر بأحلامه الشعرية، وما حلمه لنفسه وما حلمه لقارئه؟
- أحلم أن أضعَ البحر في قنينة، والضوء في كيس بلاستيكي... وأصعد بهما للطابق الثاني - حيث أسكن- وأنام مطمئنا بأنهما لن يهربا مني ثانية. أحلم بقارئ نسي أخذ حقنة تطعيمه ضدَّ دوار البحر، ولا يلبس نظارة شمسية.
* سأفترض أن في إجابتك نومة غرور فحين نام المتنبي ملء جفونه عن شواردها كان منشغلا بالتعبيرعن هموم كبرى، بينما ينشغل الشاعر الآن بالهموم الصغيرة هل من تغير في البوصلة الشعرية؟
- وسأفترض أيضا أنه استغل آلته الشعرية ليوهمنا بذلك، أبوالطيب المتنبي لم ينم، كان مشغولا بصناعة الحلم. مشغول إلى حد إقناعنا أنه نام عن شواردها. وسأفترض أنني غير مشغول بقضايا الكون الكبرى بقدر انشغالي بتفاصيل الإنسان الصغيرة... لقد خدعنا المتنبي لأن آلته الشعرية تعمل بمحركين نفاثين، ولأننا بحجم الخديعة ومهيئون لها.
* ما الأشياء التي يلذ لحسين فخر أن يعبئ معانيه فيها وما الاستعارات التي تستهوي حسين فخر فتجعله ينجز من خلالها نصه؟
- أن أكون قريبا مني، ممسكا بي جيدا، قريبا من إنساني، أتهيأ للقبض عليه متلبسا بحالاته كلها، بأصابع من زجاج. أجد لذة في حالة الترصّد هذه. المضمون والمعنى الإنساني مرمى بندقيتي، ولأن بندقيتي من قصب مازال لدي متسعٌ مغرٍ للكتابة. مع انتباهي إلى أنَّ مفهوم الكتابة لا يكون متسقا وهذا المعنى دائما. أنا مندوب اللغة، مأخوذ بها حدَّ الفتنة، أعمل إنسانا في المنظومة الكونية، وفي أوقاتي الشاغرة أحاول أن أكون الحرف الثامن والعشرين.
* إلى أي مدى تطيعك اللغة في صناعة النص الذي تريده وما أدواتك لتطويع اللغة حين كتابة النص؟
- أتعامل مع اللغة باعتبارها ابنا بارا، وأتمرّن دائما على سلوك الأب الجيد.
* كيف تؤثث كونك الشعري وما الأشياء التي تستهويك؟
- أحب طائرة البوينج طراز747، أمقت الطائرة العمودية لأنها أقَلُّ من أنْ تُقِل، أحب الطيّارين والمهندسين. نحن أصحاب «كار» واحد. قد تسألني ماعلاقة الكون الشعري بطائرة البوينج؟ ما المساحة المشتركة والهندسة؟ صديقي... القصيدة التي لا تطير ولا تمتلك أنظمة ملاحة جيدة تفتقر إلى السمو... تفتقر إلى وظيفتها الأساسية. لا أتعامل مع القصيدة باعتبارها نصا شفاهيا فحسب، لذلك أعمد إلى الهندسة الداخلية.
* بعيدا عن ثنائية الشفاهية والكتابية أو قريبا منها، إلى أي مدى تستهويك الحداثة المتواصلة في النص القديم والتي تتجاوز أحيانا كثيرا من المحدثين؟
- لي علاقة وطيدة مع المتنبي وأبوفراس الحمداني، أقف محترما ما أفرزه العصر الذهبي تحديدا. هل تعلم ما مشكلة الحداثة؟ هي اقتراح القطيعة وممارستها دون الالتفات للقيمة الفنية والجمالية للنص. أتذكر رأيا مماثلا لرولان بارت يشير فيه إلى سبب إخفاق المشروع الحداثي في المشرق العربي يرجع إلى أنهم حاولوا الانطلاق من لاشيء. ثمة نص قديم يغرق في حداثته ضمن المعايير الفنية، وثمة نص حديث أشبه بالمحاولة الأولى لكتابة قصيدة. المشكلة ليست في الشكل فحسب، المشكلة في فهمنا للحداثة باعتبارها قطيعة، لذلك لا أعجب إذا صادفت شاعرا حداثيا لم يسمع بأبي العتاهية.
* شعريا من أنت؟
- أحد العناصر الفلزية ذات الكثافة العالية، قابل للسحب والطرق، أحتاج لدرجة انصهار منخفضة، وموصل جيد للكهرباء والحرارة.
* لماذا أنت شاعر؟
- أنا شاعر لأنني لست طائرة ورقية.
* هل يصنع الشاعر موضعه بنفسه أم يصنعه عبر الآخرين؟
- تحتاج شجرة التفاح لكي تكون مثمرة إلى مساحة ضوئية مناسبة وتربة طينية هشة. الشاعر شجرة تفاح لا يمكنها النمو فوق كعب إسمنتي. الشجرة تصنع نفسها من خلال التمثيل الضوئي، والآخرون يكتبون القصيدة قبل الشاعر في أحايين كثيرة. القراءة تمثيل الكتابة.
* هل الجماعة الشعرية حقيقة أم نسق مصطنع للقراءة؟
- يقترح سؤالك هذا صيغة قطعية. لكي تسأل لماذا المطر؟ عليك أن تدرس سلوك السحب وسيرتها الذاتية. لا يمكن للسحابة أن تمارس مهمتها خارج جمهرتها، وأجد أن من الصعوبة أن نفهم المطر أيضا من غير اقتراح هذه الجمهرة.
* هل هذا اعتراف ضمني بالآخرين بعد معارك أثارت جلبة سابقة؟
- إذا كان رأيي مختلفا عما قلته سابقا، فهذه فضيلة، فالحية التي لا تغيير جلدها لا تستحق الحياة كما يقول نيتشه. ما قلته سابقا إن الكتابة ما هي إلا كتابة على كتابة، والمشهد لوحة فسيفساء إيرانية تحتاج لقطع كثيرة، صغيرة وكبيرة، حتى يكتمل المشهد. بالنسبة لي لم أخض حربا ضد أحد من قبل وغير مشغول بهذا، أنا مشغول بما أنا فيه، قلت رأيي الشخصي ولهم أن يقولوا أو يتقولوا فهذا شأنهم.
* أين تضع اسمك بين المجايلين لتجربتك زمانا أو مكانا؟
- أضعه في الموضع الذي يضعه أيُّ شاعر يحترم قيمة ما يكتب، وقد قلت من قبل إنني أنتمي إلى حاصل جمع قائمة كبيرة مما كتب، للشاعر خواص الاسفنج، أنا لست يتيما. أسيء فهمي لأسباب عاطفية!، وسيُساء أيضا. لكنني سأعيد ما قلته لإيماني بأنني كل هؤلاء، أنا بوذيٌ جدا في هذه المسألة، وغير منشغل بالأبوة الروحية بقدر انشغالي بأداء روبرت دينيرو.
* كأنك تريد أن تكون أبا بينما لا يضيرك الاعتراف ببنوة لمن سبقك؟
لم كل هذا القلق؟ لا تشعرني أنني بحجم منطاد.
* ما الذي أضافته لك الأسفار الشعرية، الملتقيات، المنتديات؟
- ما تضيفه الصوبات الزراعية للنبات. المنتديات تحوّلك إلى ممثل مسرحي بارع، حيث الفعل ورد الفعل المباشر، تمّرنك على قبول الآخر مهما كانت ردة فعله، وعليك إكمال المسرحية أيضا، تدربك على التعامل مع الأقنعة جيدا. الملتقيات تجعلك تنصت أكثر... تعيد قراءة ماكتبت. المهرجانات الشعرية أشبه بدخول فم الحوت.
* أين تجد ذاتك أكثر؟
- منصتا في فم الحوت أبحث عن قناعي في بطنه.
* لماذا تخلخل الإيمان بجدوى الشعر، وإلى أي مدى ما زلت تؤمن بجدوى الشعر؟
- كأنك تحاول فتح الأندلس على حصان شمعي؟ هل تؤمن بأثر الفراشة؟ هو كذلك، تلك هي جدواه. أنا مؤمن بفتنته وهذا ما يجعلني أغض الطرف عن جدواه، تكفيني حالة الإقامة على الماء. الشعر نوع من البذخ الفاخر، إذا أردت أن تكون أحد حواريه فإياك أن تسأل... ماذا بعد ذلك، هو هكذا مثل الرمح الأعمى.
* كأنك تحيلني إلى استراتيجيتك الشعرية وأنت تكتب؟
- نستطيع أن نسمّي هذه الإحالة بجدوى الشعر أيضا.
* هل أنجزك نصك أم أنجزته أيكما أكثر أثرا في الآخر؟
- نحن ودودان وقريبان ولا يمنّ أحدنا على الآخر، من الصعب أن تتعامل معنا بطريقة القسمة المطولّة، لكن إذا شئت يمكنك التعامل معنا على أننا لعبة ليجو.
* من هو القارئ الضمني الذي تفترضه وأنت تكتب، ومن متلقيك؟
- لا أجد وصفا علميا أو شعريا للحظة الكتابة هذه حاليا، وأنا أتلقى سؤالك الذكي، لذلك أقترح أن نتحدث فيما قبل اللحظة، وقد شبهت الشاعر سابقا بدودة القز، هل أضيف؟ هو نحلة جبلية أيضا ويمر بكل ما تمر به العملية الإنتاجية. يعطي مما يأخذ، لم يبق متسعٌ للافتراضات، هل وجدت قارئي الافتراضي؟
* كأنك تفضل الهرب إلى مناطق سابقة للرصد أو متأبية على القنص؟
- أعطيتك المكونات وهذا سر الطبخة، أما طريقة التحضير فلكل طاهٍ ملعقته الخاصة.
* ما النسق الذي يصدر عنه الشاعر فيجعل من نصه يصل، هل الصورة الذهنية عنه كشاعر، أم المكانة الثقافية للشعر، أم المحتوى الشعر؟
- تحتاج زهرة النص إلى ظل ذي ثلاث شعب، يحتاجها مجتمعة. لا يمكنك قراءة محمود درويش خارج ما تقترحه سيرته الذاتية ومشاغله النضالية التي أفرزت محمود، كما لا يمكن التعاطي مع نصه دون الالتفات لسلطة اسمه التي حفرها بكم هائل من موسيقى اللغة، وفي الحالتين لا تستطيع تلقي محمود بوصفه محتوى شعري فقط.
* هل تعوّل على المتلقي في نصك أم تعول على النص نفسه؟
- علميا يمكن للإنسان أن يعيش برئة واحدة إذا كانت تؤدي وظيفتها الفسيلوجية بصورة صحيحة.
* هل تنجز معناك عبر ذاتك أم عبر النص نفسه أم عبر المتلقي وعلى أيهم تراهن؟
- في هذه أنا لست بوذيا، لكنني صوفي حلولي. وإن كان ولا بدّ من إجابة واحدة لا تحتمل المراوغة، فأنا أضع النص أولا، وأثق في الآخر، مع هامش جيد للخطأ. النص ردائي، أخرج مستترا به... مع أنه شفاف جدا!
العدد 2519 - الخميس 30 يوليو 2009م الموافق 08 شعبان 1430هـ