منذ نحو شهرين يُعرض. في سينما السيف فيلم Trupic Thunder (الرعد الاستوائي) بنجاح كبير. فالشريط استقطب جمهورا من المشاهدين فاق كل التوقعات، وهذا الأمر حصل أيضا في معظم الصالات الأميركية والأوروبية. والنجاح التجاري الذي أحرزه الفيلم يعود لأسباب مختلفة منها أنه يتناول قصة «حرب فيتنام» بأسلوب ساخر معتمدا على رواية كتبها أحد المشاركين في المعركة... وتبين أنه كاذب اختلق الأخبار من مخيلته ونسجها لتظهر وكأنها واقعية وحصلت فعلا.
الفكرة رائعة في رمزيتها لأنها تزعزع الكثير من المنقولات والروايات الشفهية التي تسجلت في الأشرطة أو طبعت في الكتب. فالمبالغات المشهورة والمنشورة التي تتحدث عن قساوة قوات المقاومة (الفيتكونغ) وتوحشها في التعامل مع أسرى الحرب أصبحت تقليدية في نمطيتها بسبب إصرار عشرات الأفلام الهوليوودية على نقل هذا الجانب من الصورة عن بشاعة حرب فيتنام.
فيلم «الرعد الاستوائي» ساخر حين يتطرق إلى تلك الصورة المقرفة (قطع الأيدي والأرجل) أو تلك المشاهد البشعة (بقر البطون وخروج الأمعاء). فالقصد من السخرية ليس التلذذ من معاناة البشر بقدر ما هو الاستهزاء بالسينما الأميركية التي بالغت في وصف معاناة الجنود وأهملت في المقابل مجموع الكوارث التي نزلت بالشعب الفيتنامي من جراء الاحتلال والقصف المتواصل (برا وجوا) للسكان والقرى والمدن.
يبدأ الشريط الساخر في مشهد بشع يتبين لاحقا أنه مقطع تصوير لفريق عمل من هوليوود توجه إلى غابات فيتنام لإنجاز فيلم عن تجربة جندي قطعت يداه خلال الحرب وألف رواية سجل فيها وقائع معاناته. فالشريط يريد أن يقدم صورة عن مأساة إنسان أميركي التحق بالجيش للدفاع عن بلده خارج الحدود وقاتل وكافح وتعذب من أجل هذا الهدف النبيل، ولكن دولته أهملته وتركته وحيدا بعد انتهاء الحرب على رغم حاجته إلى رعاية دائمة بسبب عدم قدرته الجسدية على العمل وتأمين المعاش.
كاتب القصة توجه مع فريق العمل لتصوير تلك المشاهد في الأمكنة التي حدثت فيها المجابهات والمواجهات. فالكاتب التي لاقت قصته ذاك الرواج الهائل واكتسحت السوق الأميركية تحول إلى رمز وطني وبالتالي كان لابد من الاعتماد عليه مرشدا للفريق السينمائي وموجها للطاقم من ممثلين وتقنيين. وبما أن كاتب الرواية لا يستطيع الكتابة فهو أصبح بمثابة المرجع الشفهي للفريق يتدخل أحيانا للتدقيق والتصحيح وأحيانا يقترح إعادة تصوير المشهد حتى يكون قريبا من حقيقة ما حدث.
الفكرة ذكية ومضحكة ومبكية وخصوصا حين يتعرض طاقم التصوير التقني والكاتب وفريق من الممثلين إلى عملية خطف حقيقية هذه المرة من عصابة تمتهن تصنيع المخدرات وتهريبها على الحدود الفاصلة بين فيتنام ولاوس وكمبوديا. فالمنطقة التي كانت مسرحا للحرب في السبعينات تحولت إلى مخابئ للعصابات التي تخزن المخدرات وتروجها وتسوقها إلى الخارج مستفيدة من تلك التجربة الحربية (أسلحة، ميليشيات، أطفال يديرون معامل التكرير) والفوضى وانعدام السلطة في تلك الأدغال الموحشة والنائية.
الظريف في الموضوع أن الطاقم التقني وفريق العمل والكاتب «البطل» اعتقدوا أن عملية الخطف خدعة سينمائية دبرها المخرج بتوجيه من المنتج حتى يكون التمثيل واقعيا. وهكذا تبدأ الوقائع القاسية تتداعي بأسلوب ساخر ولكنه موجع. وحين يتطور الوجع يكتشف الكاتب والطاقم والفريق وبطل الفيلم أن ما يحصل ليس من السيناريو. فالضرب حقيقي والتعذيب صحيح والألم يفوق القدرة على التحمل.
خلال هذه الفترة تنكشف خدعة الكاتب. فهو ليس أسير حرب ولم يحارب في فيتنام ولم تبتر يداه وكل ما رواه في قصته مجرد أكاذيب نسجتها مخيلته وأراد منها كسب المال والشهرة من طريق ادعاء بطولة وهمية. وأدى هذا الاكتشاف المتأخر إلى إثارة غضب الفريق السينمائي الذي يتعرض الآن إلى الملاحقة والاعتقال والتعذيب بسبب رواية عارية عن الصحة. إلا أن الطاقم الفني الذي يخترع الحروب في استوديوهات التصوير معتمدا الحيل والمفرقعات الفارغة استخدم مهنته وتجاربه التقنية لتضليل عصابة المخدرات وتخوينها وإيهامها بوجود قوة نيران منافسة.
الفكرة مضحكة ولكنها ذكية في معانيها وإشاراتها. فهي من جانب تفضح تلك المبالغات والشائعات والبطولات الفارغة والقصص المختلفة بشأن حرب فيتنام وهي من جانب توضح تلك الصلة الخفية بين الواقع والخيال وذاك الرابط السري بين الحقيقة والكذب. القدرة على التخيل وابتكار الصور واختراع المشاهد لتصوير فيلم سينمائي في غرفة الاستوديو تشبه كثيرا تلك الروايات المختلفة عن وقائع لم تحصل فعلا ولكنها تصبح صحيحة في عالم مضطرب وفضاءات تبحث عن أبطال وعقليات تطمح إلى تعلم لغة الأساطير.
لغة السينما أسطورية فهي تعتمد كثيرا على تقنيات تساعد على الخدعة وتصوير مشاهد مقرفة ومناظر مشوهة وحروب ومعارك وانفجارات ولكنها كلها كاذبة ومتوهمة ولا أساس لها من الصحة. وهذه النقطة تشكل قاعدة مركزية لسيناريو هذا الفيلم الذكي الذي أعطي فكرة للمشاهد عن تقنيات التصوير والأساليب التي تتبع في تمرير الخدعة السينمائية. وعلى أساس هذه النقطة بنى المخرج فكرته ليقول إن العالم حولنا هو أشبه بالسينما، فهناك الكثير من الأساطير والبطولات والقصص متخيلة ووهمية ومختلقة ولكن الإنسان يعيشها ويتعامل معها باحترام وإخلاص ومحبة وثقة ويؤمن بأنها حصلت في الواقع.
قصة «الرعد الاستوائي» مركبة من روايتين الأولى رواية كاذبة تصلح للتمثيل والتشخيص والتصوير، والثانية حكاية حقيقية ولكنها في وقائعها ومرئياتها وسردياتها تحتمل أن تكون مختلقة أصلا ولا مكان لها لا في لاوس أو كمبوديا أو فيتنام. إنه في النهاية عالم متوهم يحتمل كل السيناريوهات. فيتنام سينما أكثر مما هي تلك الحرب التي دمرت وحرقت وقتلت وجرحت الملايين. ومن يتذكر فيتنام اليوم وبعد مرور أكثر من 30 عاما، على توقفها يعود إلى تلك الصورة والمشاهد التي خرجت من استوديوهات هوليوود. فالقوة للتقنيات التي تحفر بالذاكرة وتعيد تركيبها وترتيبها لتتناسب مع نسق بطولات وهمية وروايات كاذبة وقصص مختلفة ولكنها صالحة للتصوير السينمائي.
قيمة الفيلم تختصر بهذه الفكرة الباهرة في أبعادها ولكنها جاءت في إطار ساخر ومشاهد مضحكة ولغة سوقية وشخصيات فاشلة ووجوه خائفة وطموحات شركات تريد الربح حتى لو أدى الأمر إلى فناء أعز الناس وأقربهم. ومشاهد خطف الفريق الفني والتقني والكاتب والممثل (بطل الفيلم) وحيرتهم بين أن تكون الوقائع صحيحة أو مقاطع من السيناريو تعتبر أجمل لقطات الشريط السينمائي. فمن تضاعيف تلك الصور تنكشف الألاعيب والتقنيات كذلك تظهر الشخصيات على حقيقتها حين تواجه الصعوبات... والتجارب المرة.
العدد 2232 - الأربعاء 15 أكتوبر 2008م الموافق 14 شوال 1429هـ