العدد 131 - الثلثاء 14 يناير 2003م الموافق 11 ذي القعدة 1423هـ

مفاهيم الاستنساخ تضع الحضارة في تحدي تعريف الإنسان

اقتربت الطفلة جنان بخطوات وئيدة صوب امها، التي حدست فورا ان سؤالا ما يدور في ذهن ابنتها. بصوت هامس سألت جنان امها: «هل صحيح ما قاله ابي للزوار في هذه السهرة؟ كيف تلد امرأة من شعر رأسها؟» وضحكت الام ضحكة حادة ومبتسرة، دلت على حرجها.

وبطرف عينها، ارسلت نظرة عتب إلى الاب، قبل ان تطلب إليه ان يعاونها في الاجابة. وما زاد في حرج الموقف العائلي ان الابوين لم يشرحا بعد للابنة السؤال الشهير «من اين يجيء الطفل؟» وبعد، فإن جنان لم تتجاوز عامها السادس... جرى هذا في مدينة «صيدا» في جنوب لبنان مطلع العام الجاري. وتبعد العائلة الصيداوية مئات آلاف الاميال عن ولاية فلوريدا الاميركية، إذ اعلن ولادة «أيف»، او «حواء» اولى كائنات الاستنساخ. وتفصلها عشرات آلالف الاميال عن هولندا، إذ اعلن رئيس الفرع الهولندي في الطائفة الرائيلية بارت اوفرفليت ان سحاقية هولندية وضعت الطفلة المستنسخة الثانية يوم الجمعة الماضي، ممتنعا عن ذكر البلد الذي اجريت فيه الولادة.

النسخة المطابقة... مستحيلة

منذ الولادة الاستنساخية للنعجة «دوللي» (1997)، اندفع سيل من الاسئلة المقلقة. ومثلا، فإن ولادة انسان من غير أب، جعلت البعض يندفع إلى التشديد على الدور الخاص بالانثى، واعتبار انتفاء الابوة تغييرا جذريا في صورة الذكر. والحال انها مسألة قابلة للنقاش.

ويمكن القول ببساطة ان التغيير في مفهوم الذكورة ربما يقود إلى تغيير حاد في مفهوم الانوثة والامومة والعائلة، وموقع الجنس في الحياة البشرية، وعلاقة الانسان بجذره الانساني المباشر في العائلة. ويصل الامر بسهولة إلى اعادة السؤال عن تعريف الانسان نفسه بنفسه. كيف نفكر (نحن البشر) في سؤال «من نحن؟» الارجح ان هذا السؤال مجرد نموذج مما يثيره الاستنساخ من اسئلة. ولارجح ان الكائن الاستنساخي يغاير كل تاريخ الانسان، وكل البداهات التي تعوّد عليها البشر في كل تاريخهم، من نوع ان لكل انسان ابا وأما، وضرورة لقاء الذكر والانثى وما إلى ذلك. وكأنما هو «نوع بشري» جديد، يصنع بأثر من العلم واحوال الحضارة في مطلع القرن 21.

وجددت مزاعم عن ميلاد أول طفلة مستنسخة المخاوف من ان الخيال العلمي قد يصبح حقيقة واقعة، ويرفض العلماء الاوهام الشائعة التي نسجت حول الاستنساخ. وينبه هؤلاء إلى انه لا أساس على الاطلاق لما يقال عن امكان استنساخ صورة طبق الاصل من انسان ما أو جيش من جنود متشابهين إلى حد التماثل. وأكدوا انه بعيدا عن المخاوف من ايجاد اطفال مشوهين والاعتراضات الاخلاقية والدينية على الاستنساخ، فإن الانسان المستنسخ لن يكون ابدا نسخة طبق الاصل من الشخص المستنسخ منه.

واشارت الاستاذة في جامعة شيكاغو وعضو مجلس الاخلاقيات الحيوية التابع للرئيس الاميركي جانيت راولي، إلى حقيقة انه «حتى التوائم المتماثلة، إذ يتطابق حامض الوراثة «دي ان ايه» DNA، هم اشخاص مختلفون بسبب تأثير البيئة». ويثور الجدل منذ اكثر من قرن حول التأثير النسبي للجينات الوراثية مقابل البيئة على نمو الفرد، وهو ما يلخصه الكثيرون في عبارة «الطبيعة مقابل التنشئة». وفي فيلم الاثارة «رجال من البرازيل» الذي انتج العام 1978 والمأخوذ عن رواية للكاتب أيرا ليفين يعمل الطبيب النازي جوزيف مينجيل في احراش أميركا الجنوبية محاولا استنساخ ادولف هتلر واعادة بعث الرايخ الثالث.

ويشدد أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك في ألباني بوني شتينبوك الذي يعنى بأخلاقيات العلوم الحيوية، على ان «هتلر كان على تلك الشاكلة ليس بسبب جيناته. واذا ما حاولت استنساخ هتلر فربما ستنتج شخصية مغايرة تماما».

وفي مطلع القرن العشرين، روج السير فرانسيس غالتون وهو طبيب ابن عم تشارلز داروين صاحب نظرية النشوء والاتقاء ، فكرة ان الخصائص التي تشكل الجنس البشري موروثة وان المجتمع يمكنه ويجب عليه ان يتناسل بطريقة انتقائية لتطوير نفسه. وهو ما يعرف بـ «يوجينيا» Eugenia. والتقطت النازية أفكار غالتون بسرعة، وبدت وكأنها السند العلمي المطلوب لنظرية هتلر عن «تفوق العرق الآرى». والنتيجة؟ ما نعرفه عن انفلات العنف في الحرب العالمية الثانية، والفظاعات النازية ضد اعراق كثيرة، مثل اليهود والغجر، في معسكرات الابادة الجماعية في «اوشفيتز» و«داخاو» وكل ما يرتبط بالتاريخ الهتلري من قسوة مدمرة. اذا لم ينتبه العقل كفاية، فلربما ادى الشطط في تبني بعض المقولات العلمية إلى تطرفات مدمرة.

ويقف القلق من الوصول إلى مثل هذه الاوضاع، وراء الكثير من القلق على ما تفعله شركة «كلونيد» وتفاقمت هذه المخاوف بسبب المعتقدات التي تؤمن بها جماعة الرائيليين التي اشرفت على عملية استنساخ الطفلة ايف «حواء». والمعلوم انهم يؤمنون بأن مخلوقات فضائية صنعت الجنس البشري بواسطة تكنولوجيا الاستنساخ!

وتحدث فيلم الخيال العلمي الكوميدي «النائم» (وودي ألن - 1973) عن مستقبل فيه مؤامرة لاستنساخ طاغية، بواسطة خلايا تؤخذ من انفه المحفوظ في متحف خاص.

وعلى رغم ان الاستنساخ هو زراعة نواة كاملة وليس جينات بعينها، فإنه يشكل محاولة لايجاد طفل يتمتع بسمات وراثية معينة. ويهدد الامر ببعث فكرة «العرق المتفوق» مجددا.

ويتفق معظم العلماء على انه من غير المقبول اخلاقيا استنساخ بشر بينما لم تكتمل التجارب على الحيوانات بعد. وحققت محاولات لاستنساخ الماشية والفئران وحيوانات اخرى درجات متفاوتة من النجاح إلا ان تلك الكائنات ظهرت عليها بعض العيوب بعد فترة من الوقت. ويخشى العلماء تعرض اي كائنات بشرية مستنسخة للشيء نفسه.

ولخص رئيس قسم الاحياء التناسلية بجامعة جونز هوبكنز الاميركية باري زيركين رأيه بالقول: «ربما يخيب ذلك امال من يتخيلون ان بإمكانهم استنساخ احباء فقدوهم، لكن الحصول على نسخة مطابقة هو امر مستحيل... لن يحل الطفل المستنسخ محل طفل مات. سيكون عبئا فظيعا على الطفل حين يكبر وهو يشعر انه او انها بديلة عن شخص مات»

العدد 131 - الثلثاء 14 يناير 2003م الموافق 11 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً