العدد 178 - الأحد 02 مارس 2003م الموافق 28 ذي الحجة 1423هـ

ساحل «دمستان» ينسلخ من جسد القرية... والبحر يتألم بصمت

قرى ساحلية بلا سواحل

ما معنى أن يُبتر كلك أو بعضك؟ أو يبقى حاضرك حيّا وفيه موت من ماض؟ أو تشعر بالاستقرار والمبضع يقطع أوصالك ثم يشدك إلى (التعليقة) ليسلخ جلدك ثم يمصمص عظامك؟! من دون تهويل هذه الأسئلة يطرحها الكثير من أهالي قرى البحرين وخصوصا قرى المنطقة الغربية، الذين صار البحر يبتعد عنهم رويدا رويدا، وإذا قربنا أكثر يمكننا أن نلقي الضوء بشكل أكبر على دمستان، معتبرين الماضي جزءا من حاضر ونبراسا للمستقبل. فمن قصص الأجداد الذين كانوا يروون لنا حكايات الغوص وأسرار البحر، ومنها ما يرمي بزمنه إلى سنين آبائنا الذين كانوا يحدثوننا عن البحر، ملاذهم من قيض الصيف للسباحة نهارا، وللعتمة والسمر مساء.

هذا ما كان يرويه لنا آباؤنا وأجدادنا ولكن ما رأيناه نحن جيل هذا الزمن منذ أكثر من عشر سنين، كان البحر عشقا أبديا يختلج بين ثنايا كل روح، ويشي البحر بالمخيلة، لاسيما في عطلة الصيف التي تضم أولئك الفتية، يصطادون أسماك (الميد) بالماعون (الطاسة)، ويسبحون ويشوون ويتقافزون ويلهون في سعادة وهناء.

أصبحت تلك أضغاث أحلام، لما آلت إليها شواطئنا الجميلة في يومنا هذا... فلم تعد ترى تلك التجمعات، ولم يعد الآباء يأخذون أبناءهم ليحدثوهم عن تاريخ ولى وانقضى، عن هوية وتراث زاخر، عن معيشة وقصص كفاح، أو ليقضوا معهم بعض وقت العصر في مكان بريء ونظيف بعد أن غطت القباحات كل الساحات والأمكنة... أين مضى كل ذلك؟

لقد أزالت هذه التصورات والخيالات تلك النفوس التي أجهضت كل تلك الأحلام والتاريخ قبل أن تجهز على الواقع والجغرافيا.. فلم يعد المكان إلا قصورا واستراحات يلجأ إليها سراق الأحلام، صادروا أحلام الضعفاء والفقراء... ولم يتركوا سوى منفذ يراد منه أن يقطع أكثر مما يراد منه أن يوصل.

على رغم التسمية المشهورة لقرانا كونها قرى ساحلية مطلة على البحر ومجاورة للشاطئ فإنك ومنذ أشهر قلائل لا تجد إلا دربا متعثرا وعرا لا يمكن سلكه بطمأنينة وأمان حيث كانت تلك الخشبة الدقيقة البالية التي تفتقد إلى توازنك عند المرور عليها خوفا من السقوط، وأما الآن فوصل الحال إلى ما هو أردأ مما هو عليه سابقا إذ لم يتوان أرباب المال والمنتفعون في السطو على كامل الساحل وتجريفه حتى ينطبق الوصف الكامل على القرى (قرى ساحلية بلا سواحل).

إبراهيم الماجد يؤكد أنه لا يستطيع أن ينسى أو يسلخ الذاكرة بسهولة عندما يتحدث عن ذلك الماضي والمشاهد الجميلة والصور البديعة، ويقول «لا أراني إلا أجيب بالنفي والحسرة، بل والتباكي على ما آل إليه ساحلنا إذ كانت قرانا تسمى سابقا قرى ساحلية واليوم لم يعد ينطبق عليها هذا الاسم البتة، فمن الهَمَلَة شمالا وحتى داركليب جنوبا ضاقت الأرض بعد أن كانت رحيبة، وقطع تيار الهواء بعد أن كانت رئتنا لا تتنشق إلا من خلاله. فمجموعة من النفر استحوذت على ساحلنا فاستحوذت بذلك على جزء من تاريخنا وهويتنا، أيحتاج الأمر أن نقول هل ذلك حق أم باطل؟! أهو متفق مع القانون أو الشرعية الدولية؟».

وقبل الإجابة سواء بالسلب أو بالإيجاب لابد من وضع استفهام كبير وهو جوابنا الأكيد «أمن حق فرد أو مجموعة لا تتجاوز اليد الواحدة أن تحرم ألوفا من التمتع بمباهج الطبيعة الربانية؟! أليس هذا حقا من حقوق هؤلاء البشر ضمن ضروريات ما يعيشون؟ أم إنهم - من وجهة نظر هؤلاء - قطعان لا أحاسيس لهم ولا تاريخ ولا تراث؟!»

ويضيف: من حقنا أن نشكو ومن واجب الدولة أن تعطينا الأذن الواعية، وأن تسترجع بعض ما سُلب منا، فهي التي وُهبت ما هو ليس من حقها أن تتصرف فيه مادامت مصالح العباد مرهونة به، وقِطَع الأرض التي شراها هؤلاء بأثمان بخسة أو غالية هي عندنا لا تقدر بثمن، ولا يمكن أن نساوم عليها، وإن قبلنا ذلك في ظل قانون أمن الدولة الجائر فلا ينبغي علينا اليوم أن نقف صامتين، ومن حق أولادنا أن يستمتعوا ببحرهم وأن نحفظ لهم هذا الحق ولا نفرط فيه قيد أنملة.

ومن حقنا أن نرفع أصواتنا للمطالبة بحقوقنا في أن نتمتع بما حبانا الله به، فهو مصدر رزق لبعضنا، ومحل اعتياش لآخرين، وموضع راحة وتأمل واستمتاع واستجمام لنا جميعا. وليس من حق أحد كائنا من كان أن يسلب الآخرين حقوقهم تحت مسمى «كان».

نقف عاجزين وغير راضين

نحن غير راضين عما حدث للبحر ويعتبره مهدي رجب إهانة بحق المجتمع، والمسئولية تتحملها مختلف الأطراف ولا يقع اللوم على طرف من دون آخر، فكما أن اللوم يقع على البعض ممن يقوم بهذا الفعل الأهوج مباشرة، ممن يتعدي على حقوق العامة، أو من بعض المشاكسين من أبناء القرية الذين أحدثوا المشكلات والمشاجرات مع الغير، ولكن ما حدث لأي سبب من الأسباب غير مبرر تحت أي عرف أو قانون ويشكل إعاقة لنا نحن المتعلقين بالبحر في التردد السهل عليه، ونطالب بتعديل وضع المرفأ، ونحن وقعنا في خطأ تاريخي حينما لم نسارع ونعجل بالتحرك للحصول على مرسى وهو حق طبيعي لا ينبغي المساومة عليه، فلا يستطيع أحد أن يمنعنا من الوصول إلى ما هو حق لنا، كما أننا لا نقبل اللجوء إلى سواحل أخرى غير ساحل قريتنا «من طلع من داره قل مقداره». وإن قطع الساحل وبتره أحدث معاناة كبيرة لنا نحن الصيادين فأرجلنا تغوص في الرمال حينما نود الدخول أو الخروج من البحر وهذه صورة من صور المعاناة وما خفي كان أعظم.

الجيل السابق أخطأ

جعفر حسين يروي لنا علاقته بالبحر منذ نعومة أظفاره بحكم قرب المسافة بين بيوت القرية والساحل، وهكذا نشأ وترعرعت العلاقة بين الطرفين «البحر وإنسان القرية»، ويضيف: أصبح البحر محل طرح همومنا وبث شكوانا والترويح عن أنفسنا، وتجريف الساحل كان له وقع كبير على أنفسنا لا يدركه إلا من عشق البحر واختزن في ذاكرته صحبة جميلة معه، إن ما حث ينبغي أن يبعث فينا اليقظة ويدفعنا إلى التحرك الجاد والفعّال من اجل المطالبة بساحل مصان بتشريعات رسمية لا تطوله الأيدي ولا تتعدى عليه الجهات، فالقضية تهم الجميع، وينبغي على الجميع الحركة المستمرة والمتواصلة وعدم اليأس والتفاؤل، فالكل يتحمل المسئولية، فحينما أخطأ الجيل السابق لا ينبغي علينا نحن أن نخطئ في التفريط بحقوقنا وترك حقوقنا نهبة للآخرين ممن يفتقدون إلى وازع الضمير. وما نعرفه أن للقرية منفذا رسميا للبحر وهو معتمد ضمن الخرائط، ما يجعلنا واثقين ومتفائلين من تمخض نتائج إيجابية لما نقوم به من مطالبات، فنحن لا نستطيع تحمل كل ما يحدث لساحل قريتنا.

ويؤكد جعفر كاظم أنه ليس من حق أحد أن يمنعنا من ممارسة حقنا في الصيد والتردد على البحر من خلال ساحل قريتنا، والمفروض أن يكون لنا بندر خاص وكبير يستوعب المترددين على الشاطئ إلا أن تقاعس وقصور مؤسسات المجتمع وغيابها عن تحمل دورها الاجتماعي كان سببا آخر في وقوع ما حدث للبحر، كما أن المؤسسات الرسمية لم تقم بواجبها على أكمل وجه ولم تكن العين المراقبة للمجريات والتطورات، ويجب على شباب القرية التعاون والتعاضد مع بعضهم بعضا ورص الصفوف والحرص على وحدتها كي نحقق مطالبنا.

المطالبة المشروعة

بينما أكد عضو مجلس الشورى منصور رجب في كلمته التي ألقاها في «يوم القرية» بقرية دمستان «أن المطالبة بإبقاء شيء من الساحل حق مشروع ولابد من حمل هذه الهموم التي يعاني منها المواطنون وخصوصا أهالي المناطق الساحلية عن طريق النواب وطرحها على المجلس»، وأشار إلى أنه لا يمكن أن نحمِّل الأجداد والآباء مسئولية ما حدث الآن لسواحلنا فهم لم يكونوا يدركون ما قد يحدث في هذا الزمن ولأن الظروف مختلفة بين الزمنين. وأضاف أن غياب التنسيق بين الفئات المختلفة في المجتمع وبين المؤسسات الأهلية وغيرها وعدم وجود الوعي بالحفاظ على الحقوق كان سببا في ضياع الكثير من هذه المساحات الساحلية، ولابد أن نسعى بتكاتف الجميع إلى الوصول إلى حل وإعادة السواحل إلى ماضيها القديم».

ويرى النائب البرلماني جاسم عبدالعال أن «تجاهل مسألة السواحل من قبل الجهات الرسمية قضية تؤرق المواطنين من خلال التعدي على حقوق الناس وسواحلهم، وضرورة التحرك السريع لمجابهة هذه الظاهرة التي انتشرت في جميع مناطق البحرين وأصبحت السواحل شبه مملوكة، وهذا ظلم للإنسانية وللمواطن البحريني الذي تربى على البحر وعاش فيه»، وقال: «يجب على المجلس البلدي والمجلس الوطني بشقيه الشورى والمنتخب، التحرك الجدي لإعطاء أهل السواحل الحق في أن تكون لهم سواحل».

وأكد رئيس المجلس البلدي بالمحافظة الشمالية مجيد السيد علي «أن هذه الملفات الساخنة لابد وأن تفتح وخصوصا بعد فتح ملفات سواحل باربار وكرانة والبديع واليوم نفتح ملف ساحل دمستان والمنطقة الغربية، وهي من أولويات المجلس البلدي الذي يسعى إلى الحفاظ على هذه السواحل من خلال التفاهم مع المجلس الوطني وإصدار تشريع وقانون يمنع استملاك البحر لبعض المتنفذين وأن يكون الساحل من حق جميع المواطنين، والعمل على إنقاد ما يمكن إنقاده واستحداث سواحل جديدة أو شراء بعض الأملاك الخاصة على السواحل وتحويلها إلى أملاك عامة».

وأشار مجيد إلى قضية ساحل باربار وتحويلها إلى قضية وطنية من خلال تحريك الرأي العام اتجاهها، إذ استطاع الأهالي تجميد الأعمال التخريبية على الساحل وتجميد إقامة المباني وغيرها ومن هنا لابد على الجميع العمل من اجل حفظ هذه السواحل.

ويبقى لنا تساؤل

من هو المسئول عن كل ما يجري لهذه السواحل؟ فالبحرين عبارة عن أرخبيل من الجزر إلا أن شعبها لا يجد متنفسا للاستجمام على سواحلها، فالسواحل أصبحت حكرا على المتنفذين والمحتكرين، وأصبح الكل لا يجرؤ على الكلام في مثل هذه الموضوعات لأنها بحق تمس أناسا من ذوي المناصب العليا التي لا يجب المساس بها أو حتى الاعتراض على ما يفعلون حتى وإن كان ذلك على حساب مصالح ورقاب الشعوب. لا اعتقد أنه يوجد من يعيش على هذه الأرض ولا يعلم بهذه المشكلة وما تعاني منه سواحلنا ولكن جلهم من يعطي ظهره لمثل هذه القضايا لأنها قضايا قد تسبب له إحراجا مع الآخرين، فأين وزير البلديات وأين النواب؟ وأين أعضاء المجلس البلدي؟ وأين المؤسسات المدنية والحقوقية؟، كلهم لم يسعوا إلى فتح هذه الملفات خوفا من ماذا؟ لا احد يعلم! وربما هناك مَنْ يعلم ولكن لا يعرف أن يتكلم

العدد 178 - الأحد 02 مارس 2003م الموافق 28 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً