العدد 178 - الأحد 02 مارس 2003م الموافق 28 ذي الحجة 1423هـ

في قمة شرم الشيخ: صديقك من صدَقَك لا من صدَّقك

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

ماذا دهى حكامنا العرب؟ وفي أي عصر يعيشون؟ ولماذا ما إن يحصل بعضهم على فرصة أمام الميكرفون فيبدأ في إلقاء محاضرات في التاريخ والجغرافيا وفي كل شيء ماعدا ما يتعلق بالوضع المأسوي الذي نمر به والذي تسبب فيه المتحدث مع غيره من المتحدثين؟ لماذا لا يستمع المرء إلى حديث متكامل خارج من القلب إلا إذا كان من شخص مثل وزير الخارجية اليوناني؟ إذ يتحدث الوزير غير العربي بطلاقة لسان وبوضوح، مكررا أنه من الأفضل أن يكون صادقا وبذلك يؤكد أن «صديقك من صدَقك لا من صدَّقك». أما الوزراء والقادة العرب الذين بودّهم النطق بمثل ما جاء على لسان وزير الخارجية اليوناني فإنهم لا يستطيعون ذلك لاعتبارات وبروتوكولات وأعراف وضوابط لا توجد في أي مكان في العالم سوى في منطقتنا العربية.

الوفد العراقي يعتبر من أكثر الوفود «شجاعة» وبحاجة إلى «رأفة»... فأعضاء الوفد لابد أن الشك كان يراودهم في أن هذه القمة ربما تكون آخر قمة يحضرونها قبل أن تبدأ القوات الأميركية الزحف تجاه بغداد لإقامة حكمها المباشر الذي سيستمر ربما عشر سنوات قبل أن تسلم أميركا الحكم إلى نظام موالٍ لها وبعد أن تجرى عدة عمليات جراحية في منطقة الشرق الأوسط... هذا طبعا إذا بقي هناك «شرق أوسط» نعرف معالمه، ذلك لأن أميركا أعادت ترتيب خريطة الشرق الأوسط لتضم إليها آسيا الوسطى بالإضافة إلى إيران وتركيا والخليج والجزيرة العربية والهلال الخصيب ووادي النيل وشمال إفريقيا وبعض المناطق المحاذية الأخرى... فالشرق الأوسط الجديد سيكون على شاكلة «ساندويتشة بيج - ماك» التي تبيعها شركة ماكدونالدز الأميركية، وتحتوي على لقمة كبيرة ملائمة لفم كبير وجسم ضخم لا يوجد إلا في أميركا الشمالية...

الوفد العراقي تراه متوترا في الصباح، مبتسما ومبتهجا في المساء. وزير الخارجية العراقي يشتم هذا المسئول الأميركي ويتهكم على ذلك المسئول الإماراتي ويطلق عليهما أوصاف «السخافة»، بينما يحاضر في مؤتمر صحافي على هامش القمة عن «حضارة وادي الرافدين» التي كانت ومازالت مهدا لكل العلوم ولكل المعاني الإنسانية... تسأله عن الحاضر، فيجيبك عن الماضي!

أما الزعيم الليبي فهو بطل القمة منذ وصوله إلى شرم الشيخ حتى خروجه. فهو يعطي الجو نكهته، ولاسيما عندما يبتسم ويلوّح لمن وقف على الطريق، سواء كان الواقف على الطريق يعلم ام لايعلم أن الشخص الذي يلوّح بيديه - ويحميه حرس خاص من النساء - هو الأخ معمر القذافي، قائد الثورة الليبية وصاحب النظرية الثالثة، على رغم أنه لا توجد هناك نظرية أولى أو ثانية... لا مانع لدى القائد الليبي، فهو لم يأتِ إلى القمة العربية عارفا أو معترفا بجدول أعمالها... فلديه كلام وكلام ومحاضرات طويلة لابد أن يلقيها على أية جمهرة من الناس، سواء كانوا مجموعة من الليبيين الذين تجمعوا في «مؤتمر شعبي» للاحتفال بثورة الفاتح العظيم أو أنهم مجموعة من الأفارقة الذين يصلون في مسجد ووجدوا فجأة الزعيم الليبي وسطهم أو مجموعة من القادة العرب الذين اجتمعوا في أحلك الظروف وقبيل بدء الهجوم الأميركي على العراق... لا فرق لدى الزعيم الليبي، فهو قائد ثورة وليس رئيس بلد، لأن الجماهيرية الليبية ليس بها رئيس وليس بها حكومة وليس بها وزارة وليس لديها سفارة. هذا طبعا على المستوى الرسمي فقط. أما على الأرض فيوجد لديها نظام مركزي صارم لا يستطيع أي شخص أن يحرك ساكنا إلا إذا تمت الموافقة على ذلك.

الزعيم الليبي ارتجل أمام القمة ووفر للعالم أروع ملحمة يشهدها تاريخ القمم العربية. فالعقيد كان يحضر القمم ويبدأ محاضرته بشتم جميع الحاضرين من دون أن يرد عليه أحد... وحتى عندما شتم القادة العرب في مرة من المرات بقوله لهم إنهم «إسطبل داوود» لم يرد عليه أي زعيم عربي... ولكن كان ذلك في القرن العشرين. أما في القرن الحادي والعشرين فإن الرد كان جاهزا من الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الذي فاجأ الزعيم وفاجأ العالم بردٍّ عنيف ومباشر متهما زعيم الثورة الخضراء بـ «العمالة» ومتهما إياه بـ «الكذب» ومذكرا إياه بحساب «القبر».

ربما أن الفائدة التي جلبها الزعيم الليبي بعد هذه الملحمة التاريخية هي تعجيله بقراءة البيان الختامي لتتحول الفوضى والتهديد بالانسحاب إلى بيان ختامي يُقرأ بسرعة لتختتم به أعمال القمة العادية العاجلة الخامسة عشرة. وبدأت تتحقق إحدى معاجز القرن الحادي والعشرين... فبعد جلسة من المحاضرات والمساجلات والمشاكسات والتهديدات - وعلى الهواء مباشرة - يتم الاتفاق على بيان ختامي في يوم واحد فقط من اجتماع القادة العرب...

خرج القادة العرب من أماكن سكنهم في شرم الشيخ ومع كل واحد منهم مئات من الحرس والمرافقين، وتنفس السياح الأجانب (وأكثرهم من روسيا وإيطاليا) الصعداء لأنهم انزعجوا من الإجراءات الأمنية ولم يتمتعوا بشيء، سوى أن بعض الإيطاليين علِم بقدوم الزعيم الليبي وذهبوا ليشاهدوه ويطلبوا توقيعه على أوراق وكتب لديهم، واعتبروا تلك المصادفة من أروع ما حصلوا عليه في شرم الشيخ، تماما كما كانت النسوة اللاتي يحرسن القذافي من أفضل مشاهد القمة، وكما كانت مساجلته مع الأمير عبدالله من أفضل ما حصل في أية قمة عربية..

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 178 - الأحد 02 مارس 2003م الموافق 28 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً