قرأت كتبا كثيرة في الحسين (ع) كانت تتوهّج حزنا، وتحمل بعدا فكريا، غير أني وقفت كثيرا أمام كتاب علي شريعتي «الشهادة». ففي هذا الكتاب نتلمس الحزن كيف يوشي بالفكر والتوهج المتقد كيف يستعر بالروح الملتفة حول الحسين (ع)... تقرأ في بعض الكلمات صورة أخرى تختصر مسافات الشعارات التي لونت سماء كربلاء وخطت خطوطا حمراء، عليها قطرات لذلك النجيع الذي انسكب في محراب جامع الكوفة ليتصل عبر حلقات تاريخية ممتدة ليصافح دم الابن وهو يراق على أرض الرافدين. استوقفتني كلمات شريعتي في الحسين (ع) وهي تحمل لغة الدعاء ونكهة التوسل وعباءة الدروشة كيف تخرج الى الوجود فكرا عليه بصمات السبحة في المحراب.
يقول شريعتي في كتابه «بالموت لا بالكلام يؤكد الشهداء إيمانهم»... ولا يوجد أبلغ من «ذلك الموت الاختياري» ولا دليل أعمق من سقوط الدم في سبيل المبادئ والقيم...
قرأت الكتاب فاختصرته في عبارات سأضعها بين علامات التنصيص لنسجل بذلك قراءة لمفكر قد نختلف مع بعض أطروحاته ولكن يجب ألا يكون ذلك مدعاة لتجاهل اضاءات جميلة زرعها في بعض زوايانا المعتمة. يقول شريعتي: «كان الحسين الرجل والدور والبطل... كان الموقف والقضية والشهادة وكربلاء أيضا...» «كان وحيدا والسلطة تمتلك الأسلحة والأفكار والدين (الرسمي) والسيف والدعاية، لكن على رغم ذلك كان أعزل إلا من سلاح الحق...»
«من بيت فاطمة الصامت الحزين... البيت الذي وسع التاريخ كله فكان أكبر منه، خرج رجل غاضب ومصمم على اسقاط قلاع الظلم. على يديه تستلقي ثورة وكأن في صدره إعصارا... ذلك هو الحسين بن علي».
«خرج وقد وجد مدينة رسول الله محاصرة، وكعبة ابراهيم مقيدة وآمال الفقراء والجياع تساق الى «قصر الخضراء» في دمشق. تعلم من مدرسة أبيه كيف يختصر الحياة بالموت الاختياري».
ويمضي شريعتي ليقرأ لنا كيف كان الموت عند الحسين، فيقول: «ان الموت فن الحسين، وليس في العالم رجل غيره يعرف كيف يجب أن يموت، ولماذا يموت...؟
«على أعتاب محراب الحرية وفي معبد الحب الانساني ولأجل العقيدة الاسلامية سقط هذا الطود ليهز الجباه الخانعات لتصعدا».
ويمضي كاتبنا يرسم لنا بريشته صورة وذلك الدعاء وتلك الزيارة الكربلائية... «إن الحسين وارث آدم الذي أعطى الانسان الحياة وهو في هذا العصر يعلم أبناء آدم كيف يموتون... ها هو الآن يقول للناس: (ان الموت الأسود هو مصير مشئوم ينتظر كل ذليل يصافح العار لكي يعيش... وان من لم يجرؤ على اختيار الشهادة سيختار الموت)».
ويفسر شريعتي الشهادة تفسيرا بلغة عصرية صارخة: «الشهادة هي ادانة لهذا العصر الذي يمضي بصمت، ولابد من فدائي في أطلال هذه المقبرة السوداء الصامتة...».
وها هو التاريخ يعيد نفسه، فالحسين مازال يقاتل في جنوب لبنان وفي فلسطين دفاعا عن الكرامة الاسلامية، وعن ذلك الصمت كما قال فيه نزار قباني «سميتك الجنوب يا لابسا عباءة الحسين وشمس كربلاء».
وعن يوم الاستشهاد يقول شريعتي: «وكان في ساعات القتل، وتكدس أجساد الشهداء من حوله تلوح ابتسامة مضيئة على شفتيه لأنها لحظات العناق... هي صعود من أقصر الطرق إلى معارج الانسانية... جاء بشهادته ليحكم في محكمة التاريخ... ليصرخ صوت الدم الى «الأموات المتحركين».
ويختم شريعتي قراءته للحسين فيقول «لقد مات الحسين في كربلاء ليعلن عن بعثه ووجوده الى جميع الأجيال في كل العصور ليعلمنا حقيقة كونية: «من أراد أن يعرف كيف يحيا جيدا فليعرف كيف يموت جيدا...» هو الحسين جاء من رجل الحب والسيف (الامام علي) من صلب رجل لم يطق ظلم امرأة يهودية تعيش في ذمة دولته. لذلك كان حسينا ولذلك كان أبوه عليا
العدد 180 - الثلثاء 04 مارس 2003م الموافق 30 ذي الحجة 1423هـ