العدد 188 - الأربعاء 12 مارس 2003م الموافق 08 محرم 1424هـ

أميركا ليست العالم

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل نستطيع ان نقرأ خريطة العالم السياسية من خلال مواقف أعضاء مجلس الأمن (15 دولة) وكلمات المندوبين إلى الامم المتحدة (42 دولة طلبت التحدث)؟ ليس المهم الكلام الكثير الذي قيل ويُقال... المهم «المزاج» الدولي الذي بدأ ينقلب من جانب إلى آخر.

«المزاج» الدولي تغيَّر، والكلام الذي كانت تقوله الولايات المتحدة وبريطانيا عن العراق وموجزه أنه يُماطل ويناور ويكذب، أخذ العراق يردَّه مضاعفا، وخلاصته أن الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا تستخدمان الوثائق المزوَّرة ومعلومات أكاديمية غير موثَّقة وموثوقة. فالكذب، باعتباره تهمة سياسية، انتقل من الجانب العراقي إلى الجانب الأميركي المدعوم بريطانيّا.

هذه اللغة تدلُّ على مشكلة. والمشكلة في قلة المعلومات التي يملكها محور واشنطن - لندن في تلبيس العراق سلسلة اتهامات تشكِّل ذريعة للحرب. فالذريعة تتقلص أسبابها وموجباتها يوما بعد يوم، بل باتت في بعض جوانبها تنقلب على الطرف الذي يحتج بها للانطلاق نحو «عالم جديد»... والجديد في هذا العالم أن بدايته ليست جديدة، بل من المحتمل ان تجرَّ العالم نحو هاوية من الانقسامات.

هاوية الانقسامات لا تعني إعادة اصطفاف عالم «الحرب الباردة» الأولى من جديد في جبهة واحدة ضد العوالم الأخرى التي تملك الأسواق والخامات والثروات، ولكنها لا تملك القوة للدفاع عن مصالحها وحاضرها ومستقبلها. فالعالم الجديد، عالم «الحرب الباردة» الثانية، سيتشكل من منظومات منقسمة على المصالح وليس «الايديولوجيا»، الأمر الذي يزيد من صعوبات التصنيف بين الجديد والقديم، والديمقراطي والاستبدادي. فالخلافات المقبلة ستكون معقَّدة ومركَّبة ومتداخلة ومتناقضة في داخل المعسكر الواحد الذي تجمعه الأفكار نفسها مع المعسكر المضاد.

في الاستقطابات الدوليَّة السابقة كان من السهل على «الايديولوجيا الأميركية» والدعايات المبثوثة في قطاعات الإعلام (صحافة وتلفزة) وفي السينما والروايات، أن تصنف دول العالم إلى «خير» و«شر» و«حر» و«مستبد»، وغيرها من توزيعات كلامية يمكن من خلالها اختراق العقول والذهنيات السياسية.

الآن اختلفت الاستقطابات وتعقَّدت (تعثَّرت) لغة الكلام. وبات من الصعب على «الايديولوجيا الأميركية» وأجهزتها الإعلامية تصنيف لائحة الأعداء والأصدقاء.

حتى بريطانيا (الحليف الأوروبي الأول) باتت في وضع ضعيف حين انكشفت أكاذيب طوني بلير وألاعيبه أمام صحافة بريطانيا وبرلمانها وصولا إلى حزبه وحكومته، إذ هدد أكثر من وزير بالاستقالة إذا لم تكن الاتهامات ضد العراق واضحة وموثَّقة وتملك تغطية قانونية وشرعية من مجلس الأمن... واستتباعا الأمم المتحدة.

وزير الدفاع الأميركي المتعجرف دونالد رامسفيلد كشف المستور في مؤتمره الصحافي الأخير، وكشف أن قواته مستعدة للذهاب وحدها إلى الحرب من دون غطاء أوروبي من بريطانيا. الكلام الأميركي ليس ضد العراق. إنه أحد نماذج الاحتقار للآخر حتى لو كان الآخر من أعزِّ الحلفاء وأقربهم. فإذا كانت هذه هي حال بريطانيا «المترددة» في نظر وزير حاقد ومعتد بقوته، فكيف ستكون حال الدول الأخرى في نظر أشرار الحزب الجمهوري الحاكم في البيت الأبيض؟

رامسفيلد من النوع الخطير، وكلامه يدلُّ على نمط من التفكير العدواني الذي يؤمن بسياسة القوة، وأن القوة وحدها تغيِّر المعادلات والخرائط والجغرافيا السياسية والبشرية. فحين تمرَّدت كوريا الشمالية على الضغوط الأميركية، قال رامسفيلد إن بلاده تستطيع أن تخوض أكثر من حرب على أكثر من جبهة وتربحها كلها، (يقصد كوريا والعراق). وحين رفض البرلمان التركي طلب واشنطن السماح لقواتها بعبور أراضيها إلى حدود العراق الشمالية، قال رامسفيلد إن بلاده تستطيع خوض حربها من دون حاجة إلى الموقع التركي. والآن يكرر الكلام نفسه مع بريطانيا، الحليف الأول للجبهة الأميركية.

كلام رامسفيلد غير مسئول ولغته التهديدية تدلُّ على وجود نمط من التفكير الخطير المتسلِّح بالصواريخ العابرة للقارات والقنابل ذات التدمير الشامل. وبرأي وزير الدفاع الأميركي وأمثاله في البيت الأبيض، أن هذا السلاح ليس للتخزين والتخويف إذا دعت الحاجة، وإنما صُنِعَ للاستخدام حين تستدعي الظروف استعماله لحسم موقف سياسي.

فالقوة برأيه هي السلاح السياسي لتغليب رأي على آخر. هذا هو شعار المتعجرف رامسفيلد الذي يعتد بقوة أميركا ويرى أنها كافية للتحرك وحدها والتصرف كما تشاء من دون حاجة إلى جبهة من الأصدقاء.

إلا أن قوة رامسفيلد التي تستخدم المخيلة السينمائية، مستندة إلى نماذج من أبطال بعض أفلام هوليوود، لا تدرك أن القوة ليست في السلاح وإنما في السياسة. والإفراط في استخدام القوة، المجرَّدة من الحكمة والعقل، يؤدي في النهاية إلى إضعاف المركز وتشتت قواه وتبعثرها. هذا ما حصل لبريطانيا قبل قرن من الزمن وهو تاريخ لا يدركه عقل رامسفيلد المتعجرف. فالعالم ليس ثابتا وهو يتغيَّر باستمرار.

والتغيُّر نستطيع أن نقرأ بداياته في خريطة العالم السياسية التي بدأت تظهر في اختلاف «المزاج» الدولي وتبدُّله في دول مجلس الأمن وكلمات المندوبين إلى الأمم المتحدة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 188 - الأربعاء 12 مارس 2003م الموافق 08 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً