العدد 195 - الأربعاء 19 مارس 2003م الموافق 15 محرم 1424هـ

الجواهر السود: رمز الحرية العظيم

«طف الصاع. طف الصاع. ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى والعمل الصالح»... النبي العربي محمد بن عبدالله (ص).

هذه عجالة أخطها بعد مشاهد/ تجارب عدة، بعض من هذه التجارب تعرضت لها اختيارا تارة وتارة اخرى مصادفة، آتي على ذكرها بأقدمية حدوثها؛ الاولى: قبل فترة ليست وجيزة من الزمن بعيدة بعض الشيء، مضت كما تمضي الازمان مسرعة الى منتهاها، وبقي عبقها عالقا في الروح والجسد كما هي الحال مع جميع الاشياء التي تمنحك جوهرها وعبقها بعد ان يفنى كل ما يتصل بها ماديا، حضرت من بين حشد من الناس ذوي الاهتمام وخصوصا بالمسرح وبالهم الانساني المحوري الاول والاخير: الحرية بكل وجوهها، عرض لمسرحية قدمها ممثل اميركي منفردا لا يحضرني اسمه الآن، اضافة الى ذلك، فإن المعلومات الخاصة بالمسرحية التي تضمنها الكتيب المرافق للعرض غابت في متاهات الارشيف الخاص، والمسرحية من اخراج الممثل ايضا، وقد عرضت على خشبة مسرح «نادي الخريجين» في المنامة، تتحدث حبكتها المسرحية عن رمز من الرموز الاميركية/الانسانية التي ناضلت من اجل الحرية في العالم الحديث وخصوصا حرية ما اصطلح على تسميته آنذاك بـ: «العبيد» الافارقة الذين اتت بهم مراكب الجشع والتخلف والانانية الى العالم الجديد، ونعني به: «ابرهام لنكولن» المولود في العام 1809، احد الذين ترأسوا سدة الحكم في اميركا.

وجاءت المسرحية التي تدرو حوادثها على مدى ما يزيد على الساعة ونصف الساعة مليئة بالمعلومات التاريخية عن «الولايات المتحدة الاميركية» قبل ان يتكون كيانها المتعارف عليه الآن وبالمعلومات الشخصية الحميمية جدا لشخصيتها الرئيسية: «ابرهام لنكولن» قبل انخراطه في عالم السياسة وبعده، وعن اسهاماته الكبيرة والكثيرة في تحرير «العبيد» او «السود» من قيد العبودية المشين للانسانية جمعاء قبل ان يكون مسيئا للدولة الحديثة النشأة، كما جعل هذه الجماعة البشرية المناضلة والباذلة في سبيل حريتها الغالي والنفيس من اجل حقوقها، تكتسب كثيرا من حقوقها الانسانية الاساسية والسياسية المشروعة على حد سواء في ذلك العالم الجديد ولتشعل هي ذاتها بعد اكتسابها حريتها شعلة تحرير الانسانية من رقبة العبودية وجاهليتها بمختلف الصور.

وقد اعادت المسرحية السالفة الذكر كثيرا من الذكريات الشخصية التي اعتز بها خلال وجودي في العاصمة الاميركية «واشنطن دسي» إذ كثرت زياراتي ومثولي عند نصب «ابرهام لنكولن» ليتردد صدى صوت عباراته التي خلدها التاريخ، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «حكومة الشعب بالشعب وللشعب لن تزول عن وجه الارض» وتلك الكلمات التي جاءت في احدى رسائله الى «جوزيف سبيد» إذ قال: «انت تعرف أني ابغض العبودية والاستعباد وانك لتعرف حق المعرفة خطأ العمل بهذا النظام».

وبما اننا هنا في مثل هكذا عجالة هدفها الاساسي توجيه وعي الناس الى الحقيقة التي لا يشوبها شيء والواضحة وضوح الشمس بأن الناس سواسية لا فرق بينهم نتيجة اي لون كان من ألوان الجسد او المعتقد، لسنا ملزمين بحصر الادبيات والقصص والروايات التي تشهد لشهامة هذه النخبة «السوداء» من الناس التي دفعت جل ما تمتلكه من اجل تحررها من رقبة العبودية والاستغلال المشين، بل نحن نورد فقط امثلة هي أشد قصورا من ان تبين مقدار التضحية التي قدمتها هذه النخبة الكريمة من البشر.

بدأ النهج الاستعبادي هذا للبشر في بادئ الامر كما جاء في مصادر عدة «باستعباد الاسرى، الذين كانت القبيلة تربحهم في غاراتها، وقد اعتادت قبلا ان تقضي عليهم، لأنها لم تكن تجد مصلحة في ايقافهم واعالتهم». وبعد حين من الزمن وبعد ان «تطور الانتاج، اصبح من المصلحة الاقتصادية للقبيلة، استبقاؤهم واسترقاقهم، لأنهم ينتجون اكثر مما يأكلون وهكذا تحول اسرى الحرب الى عبيد. ونتيجة لإثراء الذين استخدموا العبيد اخذ هؤلاء الاثرياء، يستعبدون اعضاء قبيلتهم، وانقسم المجتمع الى سادة وعبيد واستطاع الانتاج ان يواصل ارتقاءه خلال هذا الانقسام وبفضل النظام العبودي الجديد».

وتشير كثير من المراجع إلى ان المجتمعات لم ترض بهذا «النظام العبودي الجديد» لذلك فإنه ونتيجة لذلك قامت بثورات كبيرة قام بها «العبيد»، منها على سبيل المثال لا الحصر: «حركة الارقاء» في «اسبرطة» في القرن الرابع قبل الميلاد، إذ «تجمعت فيها الالوف من الارقاء قريبا من المدينة وحاولت اقتحامها وألجأت قادة (اسبرطة) الى طلب المساعدة العسكرية من جيرانهم ولم يتمكنوا من صد الثائرين إلا بعد سنين كثيرة». ونذكر ايضا حركة العبيد في الدولة الرومانية التي تزعمها (سبرتاكوس) قبل الميلاد بسبعين عاما تقريبا واحتشد فيها عشرات الالوف من العبيد وكادت ان تقضي على كيان الامبراطورية.

والحركات الثورية التي لاتزال تظهر بين الحين والآخر نتيجة لهذا الفهم الخاطئ عند بعض الجهلاء من القوم لتوظيف الانسان بحسب لون بشرته ولون عقيدته تعود في اساسها إلى تلك الثورات التي رفضت رفضا قاطعا الرق بأشكاله كافة وتمايز بشر عن بشر لأي شيء غير الكفاءة.

وهنا ارى انه من المناسب ان اورد هذه الحكاية الصغيرة «وقف طفل اسود يراقب بائع البالونات في مهرجان المدينة. فجأة، بالون احمر فلت من قبضة البائع وحلق عاليا حتى بدا من الصعوبة على المشاهد مشاهدته في السماء. كثير من الناس لفت انتباههم هذا الحدث ما حدا بالبائع ولكي يجعل من عمله عملا مربحا ترك طواعية بالونا آخر ينطلق نحو الفضاء الرحب. لهذا فإنه ترك بالونا اصفر، وترك من بعد ذلك بالونا ابيض يحلق في الفضاء. وقف الصبي الاسود بين الناس يراقب كما لو انه ينتظر حدوث شيء ما. أخيرا سأل البائع: «ايها السيد، اذا ما تركت بالونا اسود من يدك فهل يلحق مثل بقية البالونات هل يمكنه ان يحلق عاليا كما البالونات الاخرى؟. بائع البالونات وقد طبعت على وجهه ابتسامة الفهم، ترك بالونا اسود وقال: أبني انه ليس اللون الذي يرفع البالون، انه ذلك الشيء الذي في جوفه هو الذي يجعله يحلق عاليا».

ليست الولايات المتحدة الاميركية الدولة الوحيدة التي استعبدت البشر وباعت واشترت فيهم في سوق النخاسين، فكثير من الدول استعبدت البشر استعبادا ليس له مثيل، فقد كانت الدول الاوروبية تتسابق بشكل جنوني على استعباد البشر الآمنين وتسخيرهم في خدمة الانتاج الرأسمالي. وتاريخ افريقيا وحدها صفحة من صفحات ذلك السباق المحموم، تعرضت فيه القارة الافريقية لطوفان من الشقاء تحولت فيه «الى نوع من الجحور التجارية لاصطياد الزنوج»، إذ قامت دول كثيرة كبريطانيا وفرنسا وهولندا وغيرها، باستيراد كميات هائلة من سكان افريقيا الآمنين، وبيعهم في سوق الرقيق، وتقديمهم قرابين إلى العملاق الرأسمالي. وكان تجار تلك البلاد يحرقون القرى الافريقية، ليضطر سكانها الى الفرار مذعورين فيقوم التجار بكسبهم وسوقهم الى السفن التجارية، التي تنقلهم الى بلاد الاسياد. وبقيت هذه الفضائع ترتكب الى القرن التاسع عشر، إذ قامت بريطانيا خلاله بحملة واسعة النطاق ضدها حتى استطاعت ابرام معاهدات دولية تستنكر الاتجار في الرقيق. هناك الى جانب ذلك تاريخ للعبودية في اسبانيا والبرتغال وبريطانيا وكثير من الدول العربية والهند والشرق بمجمله، غير ان تجربة ما يطلق عليه «عبيد اميركا» ليس لها مثيل في التاريخ الإنساني من ناحية ظروف التجربة القاسية وكفاح المجموعة المستعبدة من ناحية أخرى من اجل التحرر والارتقاء. فهؤلاء الذين يطلق عليهم «عبيد» جاءوا كما جاء كثير غيرهم من العبيد مكبلين بالقيود، ففي اقدامهم ورقابهم اصفاد الحديد ينامون ويستيقظون بها ويعملون ويأكلون بها ويشترون ويباعون بها، وهم في الحال الاخيرة ليست لهم كلمة في اختيار المشتري او الثمن المدفوع عنهم لمن هم في حوزته، فقد كانوا سلعة مثل أية سلعة، بل احط السلع على الاطلاق، فهم سلعة لا يعتنى بها، بل تضرب بالسياط ويزج بها في غياهب السجون حالكة الظلمة ماديا ومعنويا، وتنتهك انسانيتها ذكرا كانت ام انثى ويفعل بها ما يندى له الجبين.

لقد جاء «الاميركان السود» مع كريستوفر كولومبس في رحلة الاولى العام 1492، بل انهم جاءوا مع المكتشفين البرتغاليين والاسبان ومن بعد ذلك في الاربعة قرون التي تلت مجيئهم بالملايين بما اصطلح على تسميته بـ «العبيد» ويذكر جواهر لال نهرو في احدى رسائله الى ابنته عن استيراد الزنوج هذا قائلا: «يصطادون العدد الكبير من الزنوج ويشحنونهم بالبحر بقسوة ووحشية يصعب تصديقهما». وكتب سكرتير الادميرال لورد هاوي ان الاميركيين يعاملون الزنوج «كنوع افضل من الماشية». كما نظر اليهم على انهم «نصف حيوانات». وتصف لنا توني موريسون احدى احفاد هذه النخبة المتميزة من البشر وهي من اصل افريقي وحاصلة على جائزة «نوبل في الادب» عن والدها في روايتها المعنونة بـ «محبوبة» (كان واحدا ممن هربوا من مناخ العبودية العنصري في الجنوب الاميركي، ليستقر في «اوهايو») إذ نشأت هي نشأة فقيرة وسط ظروف الكساد الاقتصادي الذي اصاب اوروبا واميركا في اواخر عشرينات القرن الماضي واوائل ثلاثينات القرن الحالي. وتوني موريسون ليست الوحيدة التي اثرت الثقافة الاميركية من اصل افريقي، بل لقد اثرى «العبيد» الثقافة في اميركا الشمالية واللاتينية ايما اثراء فقد تميزوا في الموسيقى والادب والفن والخطابة والدعوة الى التوحيد. وتشير الاحصاءات الى أن هناك بحسب إحصاء العام 1990، 30 مليون اميركي اسود. وكانت أميركا منعت استيرادهم العام 1808. وسبقتها كل من الدانمارك إذ منعت استيراد العبيد العام 1792، وبريطانيا منعت استيرادهم العام 1807 كما سبق ذكره.

السود في اميركا كانوا ولم يزالوا احد اهم القوى العضلية التي بنت بسواعدها اميركا، فهم مزارعون، معبدو طرق، راصفو سكك حديد، بناءون، عسكر شرطة، وعمال مصانع، كما هم الآن قوة عقلية لا يستهان بها وهي في تطور مستمر بفضل وعي ابنائها لما للعلم من سطوة كبيرة في تحسين الحياة المعيشية لأبنائها. انظر الى هذه الاسماء وتعرف على ما انجزت: مارتن لوثر كنغ، جسي جاكسن، مالكوم اكس، لويس فرخان، اندريه يونغ، كولنيل بول الذي يظهر يوميا وفي كل ثانية على شاشات التلفاز هذه الايام مع رفيقته كوندليزا رايس وغيرهم. السود هم الآن قوة مبدعة: انظر الى هذه الاسماء اللامعة في سماء الابداع العالمي: «توني موريسن» أول امرأة سوداء تحصل على جائزة «نوبل» للأدب، «اليكس هيلي» الاكثر شهرة عن روايته المعنونة بـ «الجـذور» التي صدرت العام 1976، جيكب لورنس في الفن التشكيلي، وانظر الى القائمة الطويلة من الفنانين في مجالات الغناء والموسيقى والتمثيل السينمائي والمسرحي وإلى المبدعين منهم في مجال الفنون التطبيقية، السود الآن يتربعون على قمم الرياضة: محمد علي كلاي الذي رفض خوض الحرب في فيتنام، عبدالكريم عبدالجبار لاعب متميز في كرة السلة، واسماء لامعة. السود قضاة في المحكمة العليا وأول من تبوأ هذا المنصب هو: تورغود مارشل.

يجب علينا ألا نستهين بهذه القوة التي تأخذ مكانها الانساني الصحيح ويجب علينا ان نتعلم الدرس تلو الدرس من معاناة هذه الجماعة الانسانية التي تخطت كل الصعاب وكل اشكال القهر والظلم والتعسف بالكفاح والكفاح والكفاح. لقد انتصرت هذه الجماعة ايما انتصار على كل من كان يعتقد بأنه على درجة ارفع من الناس وخصوصا السود منهم. لقد برهن الاميركيون السود مع كل اشكال معاناتهم مع العنصريين البيض ان هناك اميركيين سود بجلد ابيض اولهم ابرهام لنكولن وأخيرهم وليس آخرهم الرئيس السابق بيل كلينتون مع كل ما علق بثوبه الانساني من مغامرات ربما ينظر اليها التاريخ بشيء من الانصاف ويطهر في النهاية ثوبه من دنس الاتهام او الاتهامات.

السود الاميركان كما بيَّنا جاءوا مكبلين بالقيود يباعون ويشترون وهم الآن يتبوأون مناصب عليا ويخدمون البلد التي استعبدتهم بكل إخلاص في الوقت الذي مازالوا يوما بعد آخر ينتزعون حقوقهم انتزاعا ويتساوون في الحقوق والواجبات امام القانون مثلهم مثل اي بشر آخر يستوطن اميركا. لقد انتصر جميع هؤلاء أيما انتصار على عنصريي اميركا واستبدلوا حياة الذل والقهر والعنصرية بحياة فيها الشيء الكثير من الكرامة والعدالة. لقد انتصر هؤلاء وهم مكبلون بالقيود من كل نوع، في الوقت الذي فشل فيه كثيرون في تحقيق درجة بسيطة من الانتصار لحقوقهم المهدورة وهم احرار منذ ولدتهم امهاتهم.

ليس هناك من انسان عربي او غير عربي إلا ويعرف عنترة بن شداد، ذلك العبد الاسود الذي بيض وجه قومه يوم كانت في اشد حالات البؤس وحالك سواد الخزي والعار، ليس فقط بقوته العضلية ولكن بإبداعاته الادبية الشعرية وخطبه ومواقفه الرجولية الانسانية الكبيرة التي لايزال كثير من القوم ينهل منها ومن مآثرها، هو الآخر لم يتخاذل ولم يستسلم ولم ييأس ولم يسلم على رغم كل الضغوط التي مارسها عليه جهلة قومه وأسيادهم. عنترة بن شداد أشهر فرسان العرب في الجاهلية ومن شعراء الطبقة الاولى. كان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفسا، يوصف بالحلم على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة.

هنا بعض مما قاله عنترة من شعر:

واذا ظلمت فإن ظلمي باسلٌ

مُرٌّ مذاقتهُ كطعم العلقم (المعلقة)

انا العبد الذي خُبرتِ عنه

رعيتُ جمال قومي من فطامي

وإن عابت سوادي فهو فخري

لأني فارسٌ من نسل حام

ومن قال اني اسود ليغيبني

أريه بفعلي انه اكذبُ الناس

يعيبوني لوني بالسواد وإنما

فعالهم بالخبثِ اسود من جلدي

انا العبدُ الذي خبرت عنهُ

وقد عاينتني فدع السماعا

وما عاب الزمان على لوني

ولا حط السوادُ رفيعُ قدري

«سوادي بياض حين تبدو شمائلي»

لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ

بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

ماء الحياة بذلةٍ كجهنم

وجهنم بالعز أطيب منزل

يعيبون لوني بالسواد جهالة

ولولا سواد الليل ما طلع الفجرُ

وإن كان لوني أسودا فخصائلي

بياضٌ ومن كفي يستنزل القطرُ

أنا العبد الذي يلقى المنايا

غداة الروع لا يخشى المحاقا

لئن يعيبوا سوادي فهو لي نسبٌ

يوم النزال إذا ما فاتني النسب

لئن أك أسودا فالمسك لوني

وما لسود جلدي من دواء

وإن يعيبوا سوادا قد كسيت به

فالدرُّ يسترهُ ثوب من الصدف

أنظر لهذا البيت الرائع للشاعر الأسود «سحيم الحساس»:

إن كُنْتُ عبدا فنفسي حرة كرما

أو أسود اللونِ إني أبيض الخلق

عندنا «بلال بن رباح» مؤذن الرسول الذي آمن بما جاء به «محمد بن عبدالله» (ص) ولم يتخاذل ولم ينثن ولم ييأس ولم يستسلم لكل أشكال الضغوط والقهر والعنف والحماقة والجهل إلى أن انتصر انتصارا ليس له مثيل في تاريخ العبودية.

«بلال» مؤذن الرسول، ذلك «العبد» الذي قال عنه الرسول العربي العظيم «نعم المرء بلال» ألبسوه أصفاد الحديد ورموه في الشمس لتصهره كي يتخلى عن إيمانه أولا بأنه إنسان كما بقية الأفراد من البشر الذين يعايشهم في مجتمعه ويسيطرون عليه من دون وجه حق يذكر ويتخلى عن إيمانه، ثانيا بالدين الجديد. هذه صورة من صور التعذيب: «فقد كان أمية يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لاتزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في هذا البلاء أحد أحد». ذلك الإنسان الأسمر الشامخ «كالنخلة السحوق»، «عريض المنكبين»، صاحب العينين الجمرتين «كأنهما العقيق»، رفض المثول لهم لإيمانه بقضيته العادلة لكونه كما قيل: «صادق الإسلام طاهر القلب». «بلال» يقف بيننا شامخا وعبر تاريخنا ليقول لنا كونوا أصحاب مبادئ ولا تتنازلوا مهما كانت الصعاب.

انظر أيضا إلى هذه الرواية:

«حدثني مجالد بن يزيد عن نوفل بن عبدالله عن الضحاك بن مزاحم عن أبي هريرة قال بينما رسول الله (ص) في حلقة من أصحابه إذ قال ليصلين معكم غدا رجل من أهل الجنة قال أبوهريرة فطمعت أن أكون أنا ذلك الرجل فغدوت فصليت خلف النبي (ص) فأقمت في المسجد حتى انصرف الناس وبقيت أنا وهو فبينما نحن عنده إذ أقبل رجل اسود متزر بخرقة مرتد برقعة فجاء حتى وضع يده في يد رسول الله (ص) ثم قال يا نبي الله ادع الله لي فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له بالشهادة وإنا لنجد منه ريح المسك الاذفر فقلت يا رسول الله أهو هو قال نعم (...) إن الله تعالى يريد أن يجعله من ملوك الجنة يا أبا هريرة إن لأهل الجنة ملوكا وسادة وإن هذا الأسود أصبح من ملوك الجنة وسادتهم».

وهذه الرواية أيضا:

«حدثنا أبو عمرو بن حمدان قال حدثنا الحسن بن سفيان قال حدثنا العلاء بن سلمة البصري قال حدثنا شبية أبو قلابة القيسي عن الجريري عن أبي نضرة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال خطبنا رسول الله (ص) وسط أيام التشريق حجة الوداع فقال يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ألا إن ربكم واحد ألا لا فضل لأعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. إن أكرمهم عند الله اتقاكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فليبلغ الشاهد الغائب».

هناك مبدعون كثر، هنا بعض أبيات لشاعر مبدع أسود يدعى «نصيب»:

ليس السوادُ بناقصي مادام لي

هذا اللسانُ إلى فؤادٍ ثابتِ

من كان ترفعُه منابتُ أصله

فبيوتُ أشعاري جُعْلنَ منابتي

كم بَيْن أسودَ ناطقِ ببيانِه

ماضي الجنان، وبين أبيض صامتِ

إني ليحسدُني الرفيعُ بناؤه

من فضلِ ذاك وليسَ بي من شامتِ

«ياقوت الحموي»: هو الآخر «أسود» أبدع أيما إبداع وترك لنا كنزا أدبيا ثمينا بعنوان: «معجم الأدباء» وهناك قائمة طويلة جدا من مبدعين عرب جلدتهم كانت سوداء غير أن فعالهم أكثر بياضا من البياض نفسه.

التجربة الثالثة هي حلقة حوارية أو محاضرة جماعية أقيمت في «نادي العروبة» تحدث فيها جمع من شباب البحرين من رجال ونساء في مسألة تقرير صادر عن «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» عن «الحكم الصالح» وفيها قيل ان التقرير أشار إلى أن «الدول الافريقية» أكثر تقدما من الدول العربية في مجالات عدة وهي الدول التي بدأت متأخرة عن العرب في تطوير مؤسسات المجتمع المدني.

قد غفل جميع من تحدث في تلك الحلقة الحوارية عن السبب الرئيسي في تقدم تلك الدول: المبدأ الراسخ بعدالة القضية التي يكافحون من أجلها والايمان بإنسانيتهم مهما حاول الكثير من عديمي الانسانية سلبها منهم. لقد علموا الانسانية جمعاء بقيادة أحد أهم زعماء الانسانية في القرن العشرين «نيلسون منديلا» ان «لا فرق بين اسود وأبيض» تحت أي ذريعة كانت.

يقول «برونوفسكي» انه من «المؤكد الآن ان الانسان ظهر اول ما ظهر في افريقيا قرب خط الاستواء، وربما كانت انسب المناطق لبدء تطوره منطقة السافانا التي تمتد شمال كينيا وجنوب غرب اثيوبيا قرب بحيرة رودولف». ونقول ان الانسانية ذات الأصل الافريقي «كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء».

ونختتم هذه العجالة للشاعر الدبلوماسي «سليم حيدر بن نجيب» في قصيدة له بعنوان «الثورة السوداء» صدرها بهذه الكلمات: عاشرت الزنوج رفيقا وصديقا وزميلا ومخدوما. وفي كتب الدراسة وفي مطالعاتي الواسعة، كم قرأت عن تاريخ بلادهم واستعمار البيض لها واضطهاد شعوبها تحت ستار التمدين، وفي السنوات العشرين الأخيرة، كم أعجبت بجهاد الأفارقة من أجل استقلالهم، وبالبطولات الحربية والفكرية التي كرست هذا الاستقلال: عبثا فتشت، ملء الدين والدنيا وعمر الكون، عن لون سواه

عبثا بالماء، بالصابون، بالثلج المفضض

بالدعاء الواله العربيد، بالنجوى المريرة

بالتعاويذ القديرة.

لم أجد ما يجعل الأسود أبيض

هو لوني، لوني الأعمى، ولا يجلى عماه!

أنا أسود

لفني الليل بجلباب الدجى

وتفشى في إهابي وسجا

وتمرد

كل جسمي، ما عدا كفي، فحم يلمع

والسني الأسود عيني في برق يسطع

والحجى

في الأحاجي والدياجي يسكع

أنا في الهوة أهوى أبدأ تحت الخطايا

واصلا آلام ناسوتي بآلام البرايا

ضاربا كالقدر الخفاش اضلاع الخفايا

في ظلام الظلم، في ليل النهار الجهر، في المساة قلبي يتنهد

راعش الخفق، عنيا، مشرئبا يتوعد

صارخا في دغش الصمت المعمى: أنا أسود!

أسود اللون أنا، والحظ والتاريخ، عبد

من ترى قد صنع التاريخ بهتانا وزورا

من ترى قد صنف الحظ قصورا وقبورا

وهناء مستطابا وعذابا مستطيرا

وجسوما في مهاوي الطمع الجاني جسورا

من ترى قد صنع التاريخ إقطاعا عليه الحظ جند؟

تلك أيد خنقت روح المفاهيم، الضميرا!،

قيل لي قيل لنا، للسود قول ماكر التزوير، وغد:

في حنيا الغرفة السوداء، حيث المبتدأ

حيث لا شيء يضيء

صنعت جلدي لما أسودا

يد عات

وانتضت من صدره

ضلعا سوداء صاغتها وفاقا

زوجة مشبوبة الحس هوت في خدره

تلقح الذل جناسا وطباقا

واستكان الكون.

والزنج يضجون بأصفاد، رقاقا!

هكذا قيل، وقيل العكس، ما لي أتوجد؟

علتي اني كالزلة اسود:

قبلتني الشمس اجيالا واجيالا طوالا

قبلتني فوق مشوى الاستواء

غلغلت ألسنة زرقا بعزمي وإبائي

فحمت جلدي، عضتني بشعري فتجعد

أترعت نفسي كلالا...

أهو الليل، أهو شمس

مولدي؟

ما الفرق، والطالع نحس؟

انا منذ الدهر في سجن مؤبد

أزلي ثوبي الغيهب في المحنة سرمد

مات بي الانسان في النسيان، في الذل المعبد

مات أو كاد، وأمضي

والسني يرفض رفضي

اسود الطلعة في رأد الضحى والليل...

أسود!

أنا اسود...

اي معنى هذه الالوان تعني؟

انا انسان بخلقي وبروحي وبقدري وبوزني

لن تجدد

فتح العينين، يا ابيض، وجداني تفتح

طال نومي، طال عمر الظلم في الدهر المرنح

لست من كنعان، لا ارضى بهذا الانتساب

إن اصل الجمر من لون اهابي

نسبي اني انسان، فإن شئت...

وإلا

فالدم القاني يروي الليل فجرا مستهلا

انا من نمرود!

منذ الآن من نمرود، صياد المخاطر

هيه يا أبيض اني لك ناظر

ان اسناني بيض

وطويل حقدي المكبوت في الدهر، عريض

هيه يا ابيض، أقبل في عتادك

نشغل الدنيا بفحمي وبدري من زنادك.

لقد تحرر «العبيد» يا أمة العرب فمتى نتحرر؟

العدد 195 - الأربعاء 19 مارس 2003م الموافق 15 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً