العدد 212 - السبت 05 أبريل 2003م الموافق 02 صفر 1424هـ

هل تعود لعنة فيتنام إلى المعسكر الأميركي؟

«مهما كلف ذلك». ذلك كان رد الرئيس جورج بوش على سؤال عن المدة التي قد تستغرقها الحرب على العراق. وأضافت حدة الصوت والنبرة المزيد من الغرابة على الجملة. انه رئيس دولة كبرى، بل الدولة العظمى الوحيدة في الأرض. يفترض في عبارة كتلك أنها تصف قوة ندٍّ لأميركا. ممكن فهمها لو أنها قيلت في نزاع مسلح مع الصين مثلا. ويصعب عدم استغراب، بهذا المعنى، أن تقال في حرب مع دولة مثل العراق. ما الذي جرى لتصبح دولة كبرى «ندا» لدولة عالمثالثية متواضعة ومنهكة من حروب متواصلة وحصار لمدة 12 عاما متواصلة. لا ريب أن خللا ما قد حدث.

وثمة كلام صار شائعا، وخصوصا بعد استقالة ريتشارد بيرل، عن خلافات بين رموز الإدارة الأميركية عن هذه الحرب، وعن الأثر الذي خلفته المقاومة العراقية، وخصوصا عدم انتفاض الشعب العراقي ضد نظامه، ووصل إلى حد القول الصريح لوزير خارجية بريطانيا المستقيل روبن كوك عن خطأ سياسي ارتكبته الإدارة الأميركية في الاعداد للحرب.

وتدفع عبارة مثل التي قالها بوش، وكلام كوك إلى التفكير في أشياء كثيرة، منها، على سبيل المثال، كيف وصل الأمر بمخططي أداء الإدارة الحالية إلى هذا المستوى؟

شراء المعارضة

هنالك تفسيرات كثيرة. هل صحيح مثلا أنهم «اشتروا» كلام المعارضة العراقية في الخارج؟ سيكون من المستغرب الإجابة عن هذا السؤال بنعم. والحال ان هذه المعارضة لم تكتسب أهمية في حضورها السياسي إلا بمقدار الاهتمام الأميركي بها. إذا صدقنا أنهم راهنوا عليها، يكون الأمر كمن أطلق شائعة ثم صدقها. ربما هناك شيء آخر.

يرى البعض في الطابع الايديولوجي القوي الذي يسم الرموز الأساسية في الإدارة الحالية سببا لهذا المزيج الحاد من التطرف وضيق الأفق. والمعلوم أن بوش يعتبر نفسه «ريغانيا» إلى حد كبير. ويميل بعض الخبراء في الشأن الأميركي إلى القول ان الإدارة الحالية هي استمرار للنيوليبرالية NEW LIBERALISM التي أطلقها الرئيس ريغان. ولكن تلك الليبرالية كانت تحاول شيئا مختلفا عما يفعله بوش. فمثلا التشديد على الطابع الوطني المتطرف لم يكن من ميول الريغانية. وشدّد ليبراليو ريغان على أهمية تقليص مؤسسة الدولة وسلطات الحكومة والاستثمار في المال العام وما إلى ذلك. والحال ان هذه الأمور كانت «الوصفة» الريغانية المفضلة، التي سعى إلى تطبيقها على العالم، وخصوصا باستخدام البنك الدولي... الخ. وهذه الأمور تتعاكس مع ما يفعله بوش (الابن) الذي حوّل الحكومة إلى مؤسسة ضخمة تبتلع كميات متزايدة دوما من مال دافعي الضرائب الأميركيين. والأرجح أن ما يصل الإدارة الحالية مع الريغانية استمرار لأحد «تلاوين» الريغانية.

وبقول أدق، ان ذلك الخط قفز بتلك النيوليبرالية، ليصل بها إلى المحافظة الجديدة NEO CONSERVATISM. لعلهم أشد وفاء إلى مذهب تاتشر منهم إلى ريغان نفسه. هؤلاء يعودون إلى تاريخ يعرفه الكل جيدا: انه زمن الأصول الأولى في تمدد المصالح الغربية في العالم. وبعبارة أكثر وضوحا، إلى زمن الاستعمار الأول. في نظرهم، فإن العالم مفتوح تماما أمام إرادتهم التي يرون فيها «مثال الحضارة» الذي يجب تعميمه على العالم «مهما كلّف ذلك»، بحسب ما قاله بوش حرفيا. وفي هذا المعنى القاسي، يبدو أن قوله ليس جزافا أبدا. وفي الذاكرة جيدا صور ما كانت عليه علاقة المركز الغربي مع العالم في أزمان استعمار الهند وافريقيا وآسيا... انها قفزة إلى زمن قديم شديد المرارة. هل تتمكن الإدارة الأميركية من معاودة تلك الحقب؟ حتى أن كثيرا من المصطلحات التي استعملها بوش تشير إلى مثل هذا الميل. لنتأمل قليلا في عبارات مثل «الحرب الأولى للقرن 21» (تشبيه لبداية القرن السابق في الحرب الأفغانية)، «الأمم المتحدة تكرّر مصير عصبة الأمم» (عصبة الأمم نشأت بعد الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي)، و«سنتحمل مسئوليتنا تجاه شعب العراق وسنحمل له الديمقراطية» (عبارات قيلت في تبرير الاستعمار البريطاني لعدد كبير من الشعوب)... الخ.

لماذا غابت فيتنام؟

ربما يصعب إغفال الحديث عن فيتنام. فالحال ان كثيرين راهنوا على عدم انزلاق الإدارة الحالية إلى استخدام القوة العسكرية المباشرة، بالنظر إلى قوة الأثر الذي تركته فيتنام في عقلية ريغانيي الحزب الجمهوري بشكل عام. وحتى قبل اندلاع القتال، تحدثت الصحافة الأميركية كثيرا عن «انقلاب المدنيين على العسكر». والمقصود بهذه العبارة أن المستشارين المدنيين لوزارة الدفاع هم الصقور الأشد حماسة لاستخدام السلاح، وللترويج للحروب باعتبارها وسيلة لتعامل أميركا مع المتغيرات الدولية.

ويصلح ريتشارد بيل نموذجا من هؤلاء. وعلى رغم كونه مدنيا يعمل في وزارة الخارجية، فإنه عمل مستشارا في هيئة عليا خاصة بوزارة الدفاع. وتتمحور أفكاره حول ضرورة تغيير الشرق الأوسط بالقوة المسلحة، والتعامل بالطريقة نفسها في حل الأزمة مع كوريا الشمالية وما إلى ذلك. وفي وقت مبكر من تصاعد الأزمة مع العراق، قال كولن باول «توجد آلة الحرب في وزارتي يعز نظيرها في البنتاغون»!

يرى البعض أن ميل مدنيي الإدارة الأميركية إلى السلاح هو انعكاس لعدم معاناتهم صعوبات الحرب وويلاتها. ويتحدث هؤلاء عن المعارك بوحي من تطرف ايديولوجي لا تلجمه الخبرة الفعلية في المعارك وعواقبها.

المثير أن هذا النقص في الاحساس بخطورة اللجوء إلى الحرب موجود لدى الكثير من عسكريي بوش. ويبدو أن فيتنام صارت بعيدة جدا.

وتربى الجيل الحالي في ظل انتصارات عسكرية أميركية داوية، مثل حرب «عاصفة الصحراء» التي لم يخسر الجيش الأميركي فيها سوى 148 جنديا. وبدت المعارك في باناما وكوسوفو وأفغانستان فائقة السهولة. ولم تكن الصومال سوى «هفوة» عابرة. وعلى سبيل المثال، ففي الطاقم الحالي، لم يعان من فيتنام سوى الجنرال طومي فرانكس وكولن باول. ولم يكن مساعد فرانكس، الجنرال ذو الأصل العربي توم ابي زياد، قد ولد عندما انتهت تلك الحرب. وينطبق وصف مشابه على قائد القوات البرية الجنرال ديفيد ماكيرنان، وقائد قوات مشاة البحرية (المارينز) الجنرال جيمس كونواي.

إلى أي مدى لعبت هذه الأمور دورا في الحرب على العراق؟ وكيف تنعكس في صنع القرار السياسي والعسكري فيها؟ أمور جديرة بالمتابعة

العدد 212 - السبت 05 أبريل 2003م الموافق 02 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً