مئة عام مرت على إنشاء المتحف المصري الذي يحتضن بين جدرانه أسرار وحكايات من عصور مضت، وشخصيات رحلت وامبراطوريات تهاوت. سنون مرت من عمر المتحف ولم يشهد فيها الاستقرار منذ عهد محمد علي، مرورا بإقامته في بولاق وحديقة الحيوانات حتى استقراره على وضعه الحالي العام 1900 عندما وضع حجر الأساس. أسرار وحكايات مجهولة عن المتحف المصري الذي يفوح من كل جنباته عبق التاريخ، منها مؤامرة الانجليز للاستيلاء عليه بحجة انه مخزن أتلف منه الآثار، ولكنه استطاع الصمود والمقاومة حتى أصبح مركزا أثريا وثقافيا عالميا، وأصبح جزءا من تاريخ علم المصريات. أسرار وحكايات على مدى 100 عام.
ترجع فكرة إقامة متحف يضم الآثار المصرية إلى عهد محمد علي، فقد كان الأوروبيون والمغامرون يأتون إلى مصر ويجمعون ما يجدونه من آثار لينقلوها إلى بلادهم من دون أن يعترضهم أحد، وكانت مصر تفتح ذراعيها للجميع لتعطيهم من كنوزها التي لم يعرف قيمتها سوى هؤلاء المغامرين. ثم جاءت الحملة الفرنسية العام 1798 ليكتب علماؤها مجلداتهم الضخمة في وصف مصر. والغريب انه أصبح مسموحا بعد ذلك لقناصل الدول الأجنبية وممثليهم في مصر الحفر لاستخراج الآثار بتصريح أو فرمان من السلطان نفسه. ومن خلال هذه الفرمانات والتصاريح تكونت لدى هؤلاء القناصل مجموعات كبيرة من الآثار أصبحت بعد ذلك نواة لمجموعات المتاحف الأوروبية التي تحوي آثارا مصرية، مثل المتحف البريطاني واللوفر في فرنسا ومتحف برلين وهيلدنهايم في المانيا الغربية. ولكن في عهد محمد علي اتخذت مصر اجراءات للحد من تسرب الآثار المصرية إلى الخارج، وذلك بعد أن نصحه شامبوليون بضرورة الحفاظ عليها.
وبدأ محمد علي في إنشاء متحف لحفظ الآثار في مبنى ملحق المدرسة المدنية بالأزبكية، وأشرف على هذه المجموعة «لينان بك» الفرنسي الجنسية ويوسف ضياء أفندي. وبعد ذلك نقلت المجموعة بعد ان زادت إلى إحدى صالات وزارة المعارف بالقلعة، إلا ان عباس باشا أهدى المجموعة كلها إلى الأرشيدوق مكسيميليان النمسوي الذي زار مصر العام 1855.
وفي العام 1858 عيّن أوجست ماريت مأمورا لأعمال الآثار في مصر، فبدأت النواة الأولى للمتحف في مكاتب مهجورة لإحدى شركات الملاحة على ضفة النيل ببولاق بعد أن أغلقت الشركة مكاتبها بعد بناء خط سكة حديد من القاهرة إلى الإسكندرية، ولهذا كان يطلق على المتحف المصري «متحف بولاق» وبدأ بأربع صالات.
وكرس ماريت حياته لهذا العمل، وكان باستطاعته أن يكتفي بتفسير الحروف الهيروغليفية وترجمة نصوصها بعد أن تعلم الطريقة من أحد أقاربه الذي كان صديقا قديما لشامبوليون. ولكن ماريت فضل انقاذ آثار مصر ووادي النيل من الدمار والسرقات وفكر في تشييد متحف مصري للاحتفاظ بها. وما يؤكد إخلاص ماريت انه سعى للحصول على موافقة نائب الملك على بناء متحف مصري هو الأول من نوعه. وبينما كان البناء يعلو ويتسع كان ماريت يستمر في بحثه. وكانت الاكتشافات العظيمة قد أثرْت صالات بولاق بالقطع التي يفتخر المتحف اليوم بوجودها بين جنباته. وخلال عشرين عاما عرفت أشهر قطع الفن المصري القديم طريقها إلى العالم الحديث، فجاء تمثال خفرع من الجيزة والكاتب المصري القديم من ممفيس وشيخ البلد من سقاره ورع حوتب ونفرت من ميدوم ومجوهرات الملكة «رحوتب» من طيبة.
في العام 1891 تم نقل الآثار من بولاق إلى القصر القديم الخاص بالخديوي إسماعيل وكان يقع مكان حديقة الحيوان والأورمان حاليا، والذي عرف بعد ذلك باسم «متحف الجيزة»، إلا ان التفكير في بناء متحف للآثار المصرية ظل مستمرا حتى 1897، عندما فاز المهندس الفرنسي دورنون بمسابقة لبناء المتحف الحالي الذي انتهى منه العام 1901 ولكن عندما قرر عباس حلمي الثاني بناء متحف للآثار المصرية لم يكن يعلم انه بعد سنوات قليلة سيظهر في أرض مصر أضعاف ما ظهر من كنوز التاريخ لتوضع أيضا بهذا المبنى الذي أصبح أقرب إلى المخزن منه إلى المتحف.
وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1902 احتفل بافتتاح المتحف، وتدفقت عليه الآثار، وخصوصا بعد اكتشاف مقبرة توت غنخ آمون العام 1922، وخلال هذه الأعوام لم يتم عرض الآثار بكاملها والباقي كان يخزن في بادروم المتحف الذي تسبب في ضياع الكثير من الآثار بسبب الجو البارد غير المناسب والرطوبة.
وفي يناير/كانون الثاني 1925 في وزارة أحمد زيور باشا بعث عالم الآثار الأميركي جيمس برستد إلى الملك أحمد فؤاد الأول برسالة شرح فيها الحال المؤسف للمتحف المصري في القاهرة، وقال بعد مقدمة صيغت بأرق عبارات المجاملة نحو مصر وصاحب الجلالة: «أصبح المتحف المصري في القاهرة يضيق بآثاره، ولذلك يعرض المستر جون روكفلر إقامة متحف جديد يتكلف خمسة ملايين دولار لأبحاث الآثار». والمنحة لم تكن نهائية، بل رافقتها شروط أن تؤلف لجنة دولية لها سلطة مضطلعة لإدارة المتحف الجديد، مكونة من مديري المتاحف الكبرى، وهي متروبوليتان في نيويورك والمتحف البريطاني واللوفر الفرنسي، وأن تتولى اللجنة إدارة المتحف المصري خلال الأعوام الثلاثين التالية، حتى تعد مصر جيلا من العلماء المصريين يتولون المسئولية وتؤول إلى مصر ملكية المتحف والمعهد بعد ثلاثين عاما، بالإضافة إلى أن تتولى اللجنة إدارة محتويات المتحف من الآثار الحالية والآثار التي تكتشف في المستقبل. وكان هذا المشروع يهدف إلى أن تكون آثار مصر تحت إدارة أميركية أوروبية لا يشترك فيها مصري واحد. وهذا المشروع لا يختلف كثيرا عن المشروع البريطاني القديم، عندما أرادت أن تشرف على إدارة المتحف والآثار العام 1919. وباختصار تصبح كل آثار مصر وديعة في يد اللجنة الدولية تتصرف فيها كما تشاء من دون رقابة مصرية، وبعد ثلاثين عاما يمكن لمصر أن تعرف مصير هذه الآثار.
وعرض زيور المشروع على مجلس الوزراء الذي رأى ضرورة إدخال تعديلات عليه، وان تعين الحكومة المصرية أعضاء اللجنة العليا الدولية، وكذلك نائب رئيس اللجنة وضرورة موافقة الهيئة المصرية المختصة أي مصلحة الآثار على نظم تعيين موظفين وأن تعطى الأولوية للمصريين في التعيين في المتحف ومعهد الأبحاث وأن يوافق البرلمان المصري على المشروع.
إليكم هذه القصة ليوناني عاش بيننا وعلى أرضنا، عمل واشتهر ورواها الكاتب كمال الملاخ.
«اكتشف اليوناني المصري دايتنوس تمثالين في مجموعة واحدة، ولو اخترت خمس قطع فنية بين تماثيل الفراعنة، لكان من بينها مجموعة «نفرت وزوجها رع حتب» أحد كبيري مهندسي الدولة القديمة. والتمثالان معروضان الآن في أحد أجنحة المتحف المصري، وتكاد عيونهما الأربع الكريستالية المثبتة على وجهي التمثالين تنطق بالحياة وكأنها معجزة الفن القديم إذا ان صفار الأحجار الزجاجية والبلورية التي استعملت لصنعها تكاد تقربها من العيون الحية الحقيقية حتى أن «نني العين فيها بريق كالشرار إذ ما نظرت إليها».
ويقول الملاخ إنه ربما لهذا السبب صرخ أول عامل حفار شاهد الرأسين وهما مازالا في سردابهما المظلم قبيل إعلان الكشف على ضوء شمعة تهتز في يده والظلام أمامه تلوح الفراغ الرهيب من حوله. وقد زعق بعد ان هاله المشهد، إذ ظن ان أمامه آدميين تدب الحياة فيهما طوال خمسة آلاف سنة تحت التراب الذي يغطي جسديهما فولى هاربا يبلغ ما رأى إلى اليوناني المشرف على الحفائر ديتونس وقلبه يدق وملامحه تنتفض وعرقه يلمع تحت شمس النهار وينزل ديتونس بدوره ويكشف ويعرف ثم يبتسم ويعلن النبأ وللكشف قصة ترجع إلى أكثر من مئة عام».
تعرض المتحف المصري في بدايته لعمليات سرقة كبيرة إذ كانت تختفي الآثار في البدروم من دون معرفة أية قطع أثرية قد سرقت، وتم التحقيق فيها مع المسئولين والعمال واخذت بصماتهم والنيابة حفظت التحقيقات.
وفي سنة 1938 تم أول جرد للمتحف المصري للفترة من نهاية فبراير/شباط حتى شهر يونيو/حزيران بحسب البطاقات التي عملت للآثار الموجودة في المتحف فعلا، إلا ان هذا الجرد لم يكن موضوع اتفاق بين الأثريين. فكتب وكيل مصلحة الآثار وقتئذ سليم حسن معلقا على نتيجة الجرد بأن الطريقة التي اتبعت لا تؤدي الغرض المطلوب منه وانه يجب أن تراجع بطاقات الآثار على السجل ليكون العمل مجديا.
وأصبحت الضرورة تحتم تطبيق إجراءات جرد المتحف مرة ثانية، وبدأت هذه العملية الجديدة فعلا في نهاية العام 39، ولكن الحرب العالمية الثانية كانت سببا في وقف الجرد، وعندما انتهت الحرب استؤنف الجرد وتوقف مرة أخرى.
واهتمت وزارة الثقافة والإرشاد القومي منذ ذلك التاريخ بالأمر، فطلبت من الإدارة العامة للآثار المصرية بمصلحة الآثار إجراء دراسة مستفيضة عن الظروف المختلفة التي اكتنفت موضوع جرد المتحف المصري منذ سنة 1939. وفي فبراير 1959 تقدمت الإدارة العامة للآثار المصرية إلى الوزارة بمذكرة اقترحت فيها الموافقة على الاشتراك مع ديوان المحاسبة في وضع الأسس السليمة للبدء فورا في جرد مقتنيات المتحف المصري وإنشاء سجلات جديدة وتوزيع عهدة المتحف على الأمناء وتحديد مسئولياتهم.
وفي 31 مارس/آذار العام 1959 أصدرت مصلحة الآثار أمرين إداريين برقم 3380 و3412 باتخاذ الخطوات اللازمة للجرد، حسبما تم اتفاق بينهما وبين ديوان المحاسبة. وفي 9 أغسطس/آب من العام نفسه اعترضت هذه الخطوات، وهي في طريق التنفيذ مفاجأة لم تكن في الحسبان، فقد أعلن فقد عصا توت عنخ آمون، فطلبت من مصلحة الآثار أن تؤلف لجنة من أمناء المتحف لجرد جميع آثار توت عنخ آمون من واقع السجل والبطاقات.
وبعد فترة وقع الاختيار على سليم حسن للقيام بجرد المتحف المصري، لأنه هو الشخص نفسه الذي كان وكيلا لمصلحة الآثار وقت الجرد الأول في 1938، ولكن عادت اللجنة في تقريرها فقالت إن الطريقة التي تم بها جرد المتحف تحتاج إلى مزيد من الاحكام، ولم تصلح عملية الجرد. وأكد الوزير ان عملية الجرد الصحيحة تحتاج إلى شيء من الخبرة التي قد لا تتوافر لدينا، ولهذا ليس عيبا أن نستعين بخبرة أجنبية
العدد 225 - الجمعة 18 أبريل 2003م الموافق 15 صفر 1424هـ