العدد 227 - الأحد 20 أبريل 2003م الموافق 17 صفر 1424هـ

السحرة الجدد

دمشق - تركي علي الربيعو 

تحديث: 12 مايو 2017

كان فرويد، مؤمنا حتى العظم بالدور الكبير الذي تلعبه الأفكار في قيادة العالم وفي تغييره نحو الأفضل، فهو لم يشك يوما في قدرة الأفكار وفي قوة الكلمة المنطوقة، فالأفكار التي تتحدر من الأعلى إلى الاسفل، قادرة من وجهة نظره المتفائلة جدا، على أن تقود العالم، ويعلق ريجيس دوبريه بسخرية على ايمانية فرويد، ويقول: من الغرابة، أن فرويد لا يحكم على هذا الاعتقاد بالدور القيادي للفكر بأنه ساذج أو مخادع. وهو ليس الوحيد. جميع وزراء الداخلية والأطفال الرضع في الكرة الأرضية يقاسمونه تفاؤله الابداعي. فالوزراء المذكورون يعتقدون بأنه من المفيد مصادرة الكتب والصحف عندما يشتبهون بتهديدها للنظام العام، بينما الرضع لا يشكون في أن الاشارات تدير الاشياء لأنه يكفيهم اطلاق الصراخ لكي تظهر الأم على الفور؟

في الحقيقة، هناك قناعة كبرى تمثل القاسم المشترك لمعظم السياسيين ووزراء الداخلية والأجهزة الأمنية مفادها أن الأفكار تقود العالم وأنها تختبئ في الكتب المجلدة أو ما يعرف عندنا بالكتب الصفراء أو في بيانات المثقفين، التي ما إن يفتح أو تنشر حتى تفلت منها الأفكار وكأنها جنيات قادرة على اغواء العالم بسحرها وبقدرتها على فتح الأبواب الموصدة التي أقفلتها الثورة منذ أن جنحت باتجاه التقليد والمحافظة، بصورة أدق، منذ أن راحت تؤسس نفسها في القبيلة والغنيمة. من هنا ليس غريبا أن يتحسس وزراء الداخلية مسدساتهم عندما يسمعون بكلمة مثقف، وخصوصا أن المثقف يرتبط عندهم بالساحر في قدرته على إغواء العالم بالكلمات وهذا ما يقض مضجعهم ويهدد امتيازاتهم.

من المعروف أن هتلر كان يكره المثقفين وكان يتحسس دائما مسدسه، فالمثقفون في نظرهم الموضوعي إلى الأشياء، يقومون بتقديم كبرياء الأمة على مذبح النظرة الموضوعية... هذا ما كتبه هتلر في كتابه الشهير «كفاحي».

من وجهة نظر جاكوبي في كتابه «نهاية اليوتوبيا»: إن الثقافة التي تعني في النص السابق الليبرالية والاستنارة، لم تكن محتقرة عند أقصى اليمين، بل عند أقصى اليسار أيضا، فها هو فرانتز فانون يؤكد في كتابه «معذبو الأرض» أنه «حين يسمع المواطن ابن البلد حديثا عن الثقافة الغربية فإنه يشهر مدتيه، أو يتأكد، على الأقل، أنها في متناول يده».

الغريب في الأمر، أن وزراء الداخلية في العالم الرابع، يرثون النظرة النازية للثقافة والمثقف معا.

وكذلك يفعل رؤساء تحرير الصحف في تلك البلدان فهم لا ينزعون عن أعينهم النظارات السميكة التي لا ترى في الثقافة إلا حذاءها، فالمثقفون في نظرهم فوضويون، لا هم لهم إلا الثرثرة والتمهيد إلى بلقنة البلد أو لبننته أو جزأرته. من هنا فهم يكرهون المثقفين والثقافة عموما ولا يكتفون بتحسس صمام البراوتنغ ومصادرة الكتب المشتبه بها أو البيانات التي هي في الاتجاه المعاكس لخطاب السلطة. بل يطلقون النار على المثقفين وعلى الجنيات/ الكلمات التي انفلتت من بياناتهم الداعية إلى عصر جديد، وإلى فضاء من الحرية الجديدة التي لا يمكن أن تصدر إلا عن رجال ضعفاء يتملكهم الكره والحسد تجاه رجال السلطة والحكومة كما تقول بيانات السلطة المضادة للسحرة الجدد أو المثقفين/ السحرة كما تنعتهم السلطة.

إنها حال من الاستقطاب الحاد، بين المثقف والسلطة، لنقل بين مثقف لايزال يحلم بإمكان الاصلاح والتغيير من الداخل وينسى أن الخطاب السياسي/ السلطوي في بلدان العالم الرابع، مثل كل الخطابات الآمرة لا يهدف إلى اقناعنا بل إلى اخضاعنا وإذا لم نخضع فنحن عصاة، وبين سلطة مازالت تبعث برسائلها ومنذ عقود عدة بأن امكان التغيير غير وارد وأن القائلين بالتغيير ما هم إلا سحرة جدد يجب انزال أقصى العقوبات بهم.

إنها حال الاستقطاب التي حالت دون استفادة المجتمع العربي من مثقفيه كما يرى العروي وحالت دون أن يستفيد هذا المجتمع من سلطاته. وفي الحالين تبقى الحال قائمة ويبقى المجتمع العربي في آخر العربات التي تجتاز المضيق الأخير تجاه سقف التاريخ، تنوشه سهام الهنود الحمر وتحرقه نيران الحروب الأهلية - بحسب توصيف فوكويا للمتخلفين عن الركب الحضاري - وتلتهمه نيران القاذفات العملاقة بقنابلها الذكية والغبية معا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً