العدد 230 - الأربعاء 23 أبريل 2003م الموافق 20 صفر 1424هـ

ويبقى الدرس لكل الطغاة

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

اجتمع علينا الجمع وتكاثرت علينا الذئاب...

فلا شك ان الاستعمار الاميركي الجديد مع الطغاة العرب، السابقين واللاحقين، قد حشرنا حشرا في مأزق وعر، مأزق تاريخي عويص حقا... بالأمس قال الناطق الرسمي باسم الاستعمار الاميركي، الرئيس جورج بوش الابن، وهو في زهو انتصاره في العراق، «إن رسالتنا إلى العالم هي أننا سنطارد الطغاة في كل مكان، سنخلص العالم من طغيانهم» مستذكرا ومذكرا بسقوط صدام حسين في بغداد على نحو لايزال غامضا!

ومن المفترض ان مهمة اسقاط الطغاة والحكام الاستبداديين، مهمة يجب ان تكون موضع ترحيبنا باعتبارنا من دعاة الديمقراطية انصار الحرية اعداء الديكتاتورية منذ البداية وحتى النهاية، لكن رسالة بوش إلى العالم - وإلى العرب اساسا - تضعنا في المأزق التاريخي الوعر، فكيف كان ذلك؟

نعم من المفترض ان تلقى رسالة بوش ترحيبنا، ولكن لأن بوش يستعمر بقواته الهائلة وآلته العسكرية الباطشة العراق الشقيق، ويفرض على الشعب العراقي إرادة المحتل، ويسعى إلى إعادة تشكيل النظام السياسي الحاكم على مقاسه ووفق إرادته، بعد أن دمر النظام السابق ومعه كل البنية الاساسية للعراق، فإن الترحيب بمقولته تبدو للوهلة الاولى ترحيبا بسياسته في العراق، كما في افغانستان من قبل، ومكافأة له على غزوه دولة مستقلة ذات سيادة وفرض قانونه عليها، بعد ان كسر كل القوانين الدولية والاعراف الاخلاقية...

والمؤكد اننا لا نستطيع ان نقبل تحت اي ضغوط مثل هذا الغزو الاستعماري، ولن نستسلم لنتائجه ولن نتعامل مع ما يبنيه هناك، فما بني على باطل فهو باطل لا يسوغه منطق ولا يقبله عقل، حتى لو كان الثمن الإحاطة بطاغية، والقضاء على نظام ديكتاتوري طالما عارضناه في الماضي، حين كانت اميركا نفسها ترعاه وتمده بالاسلحة بما فيها الاسلحة الكيماوية، وخصوصا خلال حربه على ايران في الفترة من 1980 إلى 1988.

وعلى الناحية الاخرى، قد يبدو رفضنا لرسالة بوش بمطاردة واسقاط الطغاة، تأييدا للحكومات المستبدة ونظم الحكم الجائرة، ومساندة لها في الاستمرار في غيها ضد دعوة بوش ومغامراته السياسية والعسكرية المنفلتة، التي يحركها صقور اليمين الاميركي الصهيوني كما يعلم الجميع...

وحتى لا تظل المفاهيم مختلطة والاوراق مبعثرة والمواقف مشتتة حائرة ضائعة، نقول اننا ضد الاستعمار الاميركي بكل اهدافه ومخططاته ونتائجه، وفي الوقت نفسه نحن ضد الطغاة والطغيان، تمسكا بديمقراطية حقيقية نابعة من إرادةس شعوبنا تخلصنا جميعا في هذه المنطقة المتهمة تاريخيا بـ «الاستبداد الشرقي» من مظاهر الاستبداد والانفراد بالسلطة والثروة تحت دعاوى ثبت زيفها بكل الوقائع والاسانيد، وبالتالي ضد ديمقراطية مستوردة على ظهور الدبابات الغازية مفروضة بقوة عسكرية غاشمة.

والمؤكد ان هذا هو الدرس الاول - الدرس الاهم الذي يجب ان نستخلصه من محنة سقوط العراق في براثن الاستعمار الجديد، وتهاوي نظامه الحاكم في لمح البصر، على عكس الضجيج الاعلامي والصخب الايديولوجي الذي اثاره على مدى نحو ربع قرن من الزمان، عانى خلاله الشعب العراقي، وجيرانه، أسوأ انواع المعاناة، وها هم العرب جميعا يدفعون الثمن من لحمهم الحي، ومن كرامتهم واستقلالهم الذي كافحوا طويلا للحصول عليه قبل اكثر من نصف قرن... خرج الاستعمار البريطاني والفرنسي - بعد العثماني - بالأمس القريب، وها هو الاستعمار الاميركي يعود اليوم جهارا نهارا، ليس في العراق وحده، او فلسطين وحدها، ولكن يا عزيزي انظر حولك لتدرك عمق ما أنت فيه من مأساة استعمارية، على رغم كل رايات الاستقلال وأناشيد السلام الوطني!!

وللدرس الاول الأهم أمامنا فروع وأصول، ولنبدأ بالابعد - جغرافيا على الاقل - إذ ان الجميع يدرك ان السياسة الاميركية في عهد الرئيس بوش الابن، وبتنظير اللوبي الاميركي اليميني الصهيوني، قد شرعت منذ هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 الدامية على واشنطن ونيويورك، في تنفيذ وتبني سياسة الهجوم المباشر على الاعداء المستهدفين، بدلا من سياسة الاحتواء المعمول بها سابقا، وهي لذلك ركزت على العالم العربي والاسلامي الذي افرخ «الارهاب الاسلامي والارهابيين العرب» الذين ادموا قلب اميركا وأسالوا دمها ودمعها.

ففي 10 اكتوبر/تشرين الاول 2001 بدأت «الحرب العادلة» ضد افغانستان بدعوى تدمير البنية الاساسية للارهاب، حكومة «طالبان» وتنظيم «القاعدة»، ثم فرض الديمقراطية والتطوير والتحديث على المجتمع الافغاني... وبعد عامين تقريبا نستطيع ان نشهد ان الهدف الاول تحقق تقريبا، أما الهدف الثاني فلايزال بعيد المنال، ولاتزال الديمقراطية غائبة مثل غياب رغيف الخبز وراحة الاستقرار وروح الاستقلال عن الشعب الافغاني.

وفي 20 مارس/آذار 2003 بدأت «الحرب النظيفة» ضد العراق، بحثا عن اسلحة الدمار الشامل، والاطاحة بالنظام الحاكم، وفرض «النموذج الديمقراطي» الذي يجب ان يصبح قدوة لباقي دول المنطقة العربية، لكن بقدر ضخامة الآلة العسكرية الاميركية البريطانية وحجم نيرانها الرهيب وتدميرها الشامل، بقدر صخب الآلة السياسية الاعلامية وصواريخها الكلامية، بشأن حرية العراق وتحديث العرب وفرض الديمقراطية، حتى بالقوة العسكرية الباطشة!

والواضح ان السياسة الاميركية جادة إلى أقصى مدى في تحقيق اهدافها الجديدة، والدليل انها ما كادت تنهي الحرب الخاطفة في ثلاثة اسابيع فحسب - على عكس التوقعات - حتى مدت بصرها الحربي والسياسي نحو دولة جديدة هي سورية، تتهمها بالاتهامات نفسها الموجهة من قبل إلى العراق... من حيازة اسلحة دمار شامل، إلى ايواء وتبني منظمات ارهابية، وتعني حزب الله والجهاد وحماس والمنظمات الفسطينية الرافضة.

ويخطئ من يتصور ان الشره الاميركي في الغزو والاحتلال والضغط والاعتصار، بعد سهولة الانتصار العسكري في العراق، سيتوقف عند بغداد أو دمشق او بيروت، ناهيك عن القدس ورام الله وغزة التي يتولى امرها السفاح الاشرس شارون، ذلك ان الهدف الاميركي اكبر ومبتغاه اوسع...

يكفي ان نذكر بلمحة من هذه التوجهات وردت يوم 3 ابريل/ نيسان الجاري على لسان المدير السابق للمخابرات المركزية الاميركية جيمس ولس، وثيق الصلة بالادارة الحالية، الذي قال في محاضرة له بإحدى الجامعات، إن هناك ثلاثة اعداء حاليين للمصالح العليا الاميركية يجب مواجهتهم بقوة حاسمة، وهم اولا التطرف العربي الاسلامي، وثانيا نظم الحكم الفاشية في العراق وسورية، وثالثا القوة الايرانية المتطرفة الصاعدة.

ثم لم يتوقف ولكنه اضاف اعداء آخرين ربما اقل خطورة، نذكر تحديدا مصر والسعودية منتقدا نظم الحكم فيهما. ومن هذا نفهم ونستنتج ترتيب خطوات البولدوزر الاميركي المقبلة، وخصوصا بعد النصر العسكري السهل في العراق...

الآن... نعود إلى الاقرب في الاصول والفروع الخاصة بالدرس الاول، ونعني ان الواقع السياسي - الاقتصادي الاجتماعي في بلادنا العربية كافة، قد اثبت الفشل في التطور والتحديث والاصلاح الديمقراطي الحقيقي، الذي طالبت به الشعوب فكان الجواب هو تصعيد الاستبداد والقمع والحرمان والتهميش، الامر الذي وضعنا فريسة سهلة للطغيان المزدوج، الطغيان الداخلي الذي تحدث عنه بوش، والطغيان الاميركي الذي قلبه بوش إلى تحرير وحرية!

ومن السهل ان نتهم النظام العراقي المتهاوي بزعامة صدام حسين، الذي ورث الحكم عن سلسلة انقلابات قادها حزب البعث منذ العام 1963، بكل تهم الفساد والاستبداد والقهر والطغيان والجموح والمغامرة، وهذا كله صحيح، لكنه لم يكن فريد عصره في هذا الشأن، بل كان صنو الآخرين وشبيه من حوله، وابن بيئة عربية، نزل عليها ماء السلطة المنفردة، فاهتزت وربت وأفرخت التخلف والفقر والاستعباد والاستبداد القومي العام...

ومع ذلك يظل درس السقوط المدوي والسريع للنظام العراقي البعثي، امام زحف الآلة العسكرية الاميركية، وما تبعه من تداعيات عاجلة وأخرى مازالت آجلة لكنها مقبلة، نموذجا لما يمكن ان يحدث لكل نظام استبدادي لا يستند إلى مؤسسات مجتمعية حرة، ولا يستمد شرعيته من رضا الشعب...

اسرف «المحللون الاستراتيجيون» في تفسير وتبرير هذا السقوط المذهل، وركزوا على نقص المهارة العسكرية وعلى عدم قدرة الجيش العراقي على مناطحة الجيوش الانجلو - اميركية، وتناسوا ان خوض الحرب، اي حرب تتطلب جيشا محترفا ماهرا مسلحا، مستندا إلى احضان شعبه، ودفء مساندته في معاركه.

غير ان كل المقدمات كانت تقول ان النظام الصدامي قد عزل الجيش عن الشعب، وعزل نفسه في دائرة صغيرة عن الجميع، ومارس القمع ضد الجميع، وعادى الجميع من جيرانه، ولنتذكر عداواته وصداماته السياسية والعسكرية مع ايران والكويت والسعودية وسورية والاردن وتركيا. فما بقي له من اصدقاء وحلفاء في الداخل أو في الجوار، ناهيك عن باقي العالم.

ولذلك لم يكن مفاجئا هذا السقوط السريع والمذهل - على رغم هالات الدعاية - ولم يكن غريبا ان يبدي كثيرون ترحيبهم بسقوط نظام حكم طاغ، ذلك السقوط الذي يفتح باب جهنم امام طغاة آخرين، طالما قلنا لهم على مدى سنوات... اصلحوا الحال «بأيدينا لا بيد اميركا» فأخذتهم العزة بالإثم، فإن سكتت عنهم الشعوب - قهرا - هل ستسكت عنهم اميركا عزلا وبطشا؟

خير الكلام:

عبدالرحمن الكواكبي:

المستبدون يتولاهم مستبد، والاحرار يتولاهم الأحرار

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 230 - الأربعاء 23 أبريل 2003م الموافق 20 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً