العدد 231 - الخميس 24 أبريل 2003م الموافق 21 صفر 1424هـ

مركزية النجف الأشرف: عودتها إلى الصدارة حتمية

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

ما يجري اليوم في العراق يعيد حلقة من الاحداث المتكررة على مر العصور. فالنجف هي النجف منذ تأسيسها قبل ألف عام على يد الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (وهو شخص غير الخاجة نصير الدين الطوسي الذي عاش بعده بأكثر من مئة عام) الذي ارتحل إليها بعد وصول السلاجقة الى الحكم في بغداد والقضاء على آل بويه الذين سيطروا على الدولة العباسية من العام 943م حتى العام 1055م. في هذا العام (1055م) سيطر السلاجقة وبدأ عهد جديد تسلم فيه الشيخ الطوسي (المتوفي العام 1067م) كتابة التراث الفقهي للمذهب الشيعي بعد ان حُرقت مكاتب الشيعة في بغداد اثناء عملية السيطرة السلجوقية على بغداد.

وهكذا انتقل الطوسي الى منطقة النجف بمحاذاة قبر الامام علي (ع) في مهمة صعبة للغاية، وهي المحافظة على ما تبقى من كتب الفقه الخاصة بالمذهب الجعفري وكتابة عدد من الكتب الأخرى التي مازالت تُعتمد كأهم مصادر الفقه لدى الشيعة. وكما لدى المذهب السني كتب الحديث (الصحاح) أي الصحاح الستة، وهي: البخاري، مسلم، الترمذي، النسائي، أبوداوود، وابن ماجة. فإن لدى المذهب الجعفري اربعة كتب اساسية للحديث، وهي: «الكافي» للكليني، و«من لا يحضره الفقيه» للصدوق، و«الاستبصار» و«التهذيب» وكلاهما للطوسي.

وكما هو ملاحظ فإن اثنين من مصادر الحديث للمذهب الجعفري كتبهما الشيخ الطوسي والذي اسس بذلك حوزة النجف الأشرف بعد انتقاله اليها في العام 1057م، أي قبل وفاته بعشر سنوات.

ومنذ تأسيس حوزة النجف على يد الطوسي قبل قرابة ألف عام ظلت هذه المدينة مركزا رئيسيا، بل المركز الرئيسي للتحصيل العلمي على اساس المذهب الجعفري، وعلى رغم انتقال هذا المركز بصورة مؤقتة الى «الحلّة» في القرن الثالث عشر فإنه سرعان ما عاد الى النجف مؤكدا قوة الجذب التي تمتلكها المدينة. وفي عصرنا الحالي بدأ موقع النجف يتزلزل بعد تسلم الرئيس العراقي السابق صدام حسين السلطة وإقدامه على إعدام أهم فيلسوف أنتجته الحوزة العلمية بالنجف خلال القرن الماضي وهو السيد محمد باقر الصدر، وتم عزل علماء الدين وقتل الناشطين منهم، وانتقلت بذلك قوة الحوزة العلمية الى قم المقدسة. حوزة قم حديثة وعمرها اقل من مئة سنة، وقوتها الحقيقية ظهرت في الخمسينات ثم بعد انتصار الثورة الاسلامية الايرانية، وهي ايضا انتجت أهم مفسر قرآن في العصر الحديث لدى الشيعة وهو السيد محمد حسين الطباطبائي.

على ان ريادة حوزة قم المقدسة كانت سبب غياب الحوزة النجفية، ولذلك فإن انتهاء حكم حزب البعث من العراق يعني عودة النجف الأشرف مرة أخرى إلى الظهور. غير ان النجف تعود بعد احتلال الاميركان بغداد وسيطرتهم مع البريطانيين على العراق، وهو أمر مماثل لما حدث في مطلع القرن الماضي عندما احتلت بريطانيا العراق بعد سقوط الدولة العثمانية. غير ان حوزة النجف دفعت الثمن لإعلانها الجهاد ضد الانجليز في العشرينات من القرن الماضي (ثورة العشرين)، واصدار علمائها الفتاوى ضد الاحتلال البريطاني جعلها وجها لوجه امام الغزاة آنذاك. وقد تمت معاقبة العلماء آنذاك بنفي عدد منهم إلى ايران (قبيل تأسيس حوزة قم)، وبقي أولئك فترة من الزمن وعاد عدد منهم إلى العراق، ولكن بعد ان تعهد بعضهم بعدم التدخل في السياسة.

وهنا طرأت اشكالية تدخل عالم الدين في السياسة. فبينما فرض البريطانيون على علماء النجف وكربلاء عدم التدخل في الشأن السياسي كانت حوزة قم في طور التأسيس من دون وجود مثل هذا الشرط. ولم يكن الشاه يستطيع فرض شرط عدم التدخل لأن الفقهاء في ايران كانوا جزءا اساسيا من ثورة الدستور هناك في مطلع القرن، والدستور الايراني اعترف بدورهم منذ ذلك الحين. وهكذا تطورت اوضاع قم بصورة منفصلة عن اوضاع النجف، وبرزت شخصية الامام الخميني في قم في مطلع الستينات وحدثت مواجهات كثيرة إلا ان قم وعلماءها حافظوا على قوتهم ولم يستطع الشاه مصادرة ركائز القوة لديهم. اما في النجف فقد كانت الاوضاع تتصاعد مع تصدُّر الامام محسن الحكيم للأوضاع ووصول حزب البعث للحكم في العام 1968م. ومنذ وصوله باشر التضييق على الحوزة النجفية واستطاع اخماد شعلتها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.

غير ان الامر الذي فاجأ الجميع هو عودة النجف الى صدارة الحدث بعد ان اعتقد كثيرون انها انتهت، بل ان هناك علماء كبارا امثال السيد محمد حسين فضل الله يفكرون في العودة إلى النجف. وعودة العلماء الكبار إلى النجف تعني - بلا شك - عودة النجف إلى موقع الريادة الذي فقدته بسبب الظروف القاهرة التي احاطت بها.

ولكن عودة النجف هذه المرة تحت الاحتلال الاميركي لها ظروفها الخاصة بها، وخصوصا ان الامور تغيرت خلال السنوات الماضية. فقد برزت شخصية السيد محمد صادق الصدر الذي اقام صلاة الجمعة في الكوفة ونشر وكلاءه في انحاء العراق في التسعينات. وخوفا من امتداد تأثيره اغتالته الحكومة العراقية، ولكن منذ اغتياله في اواخر التسعينات اصبح له اتباع كثيرون. ومع الاسف فإن هناك تصرفات تتصدرها مجموعات شبابية تتحرك بأسلوب غير مقبول ويهدد استقرار الوضع العام. وهذا ما يفسر توجه علماء كبار الى تعزيز النجف في هذه الفترة الحرجة بالذات لكي لا تفرض عليها شروط كما فرض البريطانيون على كبار العلماء في مطلع القرن الماضي شروطا كبلتهم زمنا طويلا بعد ذلك. غير ان المؤكد هو عودة النجف بسبب أقدميتها وثقلها المعنوي والتراثي ومجاورتها لمشهد الإمام علي (ع)

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 231 - الخميس 24 أبريل 2003م الموافق 21 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً