العدد 233 - السبت 26 أبريل 2003م الموافق 23 صفر 1424هـ

عالم ما بعد «الحرب الباردة»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكره الاشتراكي توصلت واشنطن مع موسكو إلى توقيع سلسلة اتفاقات ومعاهدات تناولت الكثير من القضايا الاستراتيجية الكبرى التي تتعلق بنزع سلاح الدمار الشامل (النووي والبيولوجي والكيماوي) على مراحل زمنية، وبالتالي اقتضى الأمر وقف سباق التسلح والتوقف عن انتاج هذا النوع من السلاح المدمر للبيئة والانسان. كذلك تفاهمت الدولتان على مجموعة مسائل تتعلق بقضايا وقف انتاج أو تطوير الصواريخ العابرة للقارات في محاولة منهما للسيطرة على الإنفاق العسكري واعادة توظيف الأموال والامكانات البشرية في خدمة متطلبات الانسان الصحية والتربوية وغيرها من حاجات انسانية.

بدأت الخطوات في مطلع السبعينات بعد ان وصل «توازن الرعب» الى حده الأقصى وباتت البشرية في وضع لا يسمح بهدر طاقاتها وبيئتها بسبب طغيان قوة غاشمة تقرر مصير الانسان لغايات سياسية.

محاولات السيطرة على انفلات سباق التسلح أعطت ثمارها فأخذت كل دولة بوقف برامجها الصاروخية والنووية، وسحب ما تملكه من عتاد وسلاح وتدميره أو تخزينه في مستودعات، الأمر الذي انعكس ايجابا على الاقتصاد العالمي وخفف الكثير من التوتر الدولي. واتجهت نزعة التدويل نحو الاهتمام بقضايا الانسان وحقوقه وحرياته العامة ومحاربة الأمية والجوع والجفاف والغاء الديون وغيرها من نقاط ترجح منطق السلام على الحروب.

الخطوات كانت قليلة وقصيرة ولكنها نجحت في اطارها العام في وضع البشرية على سكة انسانية يسير قطارها بهدوء وقلق الا انه كان يسير في النهاية. وقبل ان يصل القطار الى محطة النهاية انهار الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكره الاشتراكي في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات.

ارتاح من ارتاح وقلق من قلق. الا أن السعادة عمت مختلف الشعوب الأوروبية ظنا منها ان الثقل الرئيسي زال. أو على الاقل تراجع ضغطه على أوروبا... وبالتالي سيكون المستقبل في مجراه العام أفضل من السابق لأن «الخطر الاحمر» اختفى وسباق التسلح زالت مبرراته وبالتالي لابد من الاتجاه نحو الانفاق في القضايا الاجتماعية والثقافية التي ستزيد بدورها من نمو رفاهية تتناسب مع الوضع الدولي الجديد.

هكذا وبكل بساطة اتجهت أوروبا أو على الاقل هذه كانت نظرة معظم المؤرخين والباحثين والاعلاميين وصولا الى الاحزاب السياسية ورجال الدولة. الا ان الأمر اختلف في الولايات المتحدة. فهناك حصل ما يشبه الانشقاق بين تيار يريد الاستفادة من الفراغ الدولي بالاتجاه نحو تعبئة الفراغ سياسيا وعسكريا وزيادة الانفاق على التسلح وعسكرة التصنيع. وتيار رأى ان الظروف الدولية غير مناسبة وان دافع الضرائب الأميركي لن يوافق على انفاق امواله على عسكرة الصناعة في وقت زالت المبررات والضغوط والمخاوف.

أنتج الخلاف بين التيارين أكثر من مدرسة أميركية. فهناك من قال انه لابد من اختلاق «اعداء» حتى يستمر في اقناع دافع الضرائب بأهمية الانفاق على التصنيع الحربي.

وهناك من قال بوقف عسكرة الصناعة والاحتفاظ بالقوة المتفوقة في المستودعات واستخدامها عند الحاجة.

وهناك من قال بضرورة الاستمرار في تنفيذ المعاهدات التي وقعت مع الاتحاد السوفياتي واستكمال طريق الانفراج الدولي وتدمير الفائض من السلاح النووي والصواريخ العابرة للقارات.

إلا أن المدرسة الاخطر كانت تلك التي قالت ان امام الولايات المتحدة فرصة ذهبية للسيطرة على العالم بعد ان زال الخطر السوفياتي وتبخرت المخاوف من «الشيوعية» وتراجع احتمال حصول مواجهة نووية مع موسكو.

المدرسة الأخيرة كانت الاخطر، فهي دفعت المؤسسات الأميركية نحو صوغ استراتيجية شديدة التطرف تقوم على أربع قواعد:

الأولى: الغاء كل الاتفاقات والمعاهدات التي وقعت سابقا مع الاتحاد السوفياتي بذريعة ان الدولة المضادة اختفت من الخريطة السياسية.

الثانية: وقف كل عمليات التدمير للأسلحة والصواريخ والبرامج العسكرية التي باشرتها واشنطن منذ السبعينات.

الثالثة: اطلاق موجة جديدة من السباق على التسلح من دون منافس هذه المرة، وتطوير المعدات والادوات والوسائل إلى أعلى الدرجات وصولا الى اقصى التقنيات المستخدمة في تحديث آلة الحرب.

الرابعة: اعداد الرأي العام العالمي ودافع الضرائب الأميركي نفسيا وسياسيا الى موجة جديدة من الحروب بهدف السيطرة على العالم وبذريعة ان القرن الجاري هو قرن أميركي بامتياز بدليل عدم وجود منافس آخر في العالم.

ولاقت المدرسة الاخيرة النجاح في الانتخابات الرئاسية الأميركية مستفيدة من هيمنتها على البنتاغون ومنها على البيت الأبيض، وبدأت منذ الاسبوع الأول في تطبيق خططها وقبل شهور من ضربة 11 سبتمبر/ايلول 2001.

فكرة هذه المدرسة الخبيثة تقوم على سؤال لماذا نتخلص من قوتنا العسكرية وندمرها، بل لماذا لا نستخدم تلك القوة لتحقيق أهدافنا الكبرى في وقت يمر العالم في حال فراغ في التوازن الدولي؟

وحين جاءت ضربة 11 سبتمبر كانت ادوات الهجوم المعاكس، وتنفيذ الاستراتيجية الأميركية الجديدة، جاهزة وتنتظر المبرر للبدء في تطبيقها على مختلف المستويات.

وما شهده العالم في افغانستان وآسيا الوسطى وبحر قزوين والعراق وبعض اجزاء من افريقيا وبعض مناطق جنوب أوروبا وشرقها ليس الا بداية الطريق الطويل الذي ترى هذه المدرسة الشريرة أن الأوان آن لتنفيذها.

وفي السياق المذكور اتخذت ادارة واشنطن في الاسبوع الماضي سلسلة قرارات تتعلق باعادة انتاج السلاح النووي بعد توقف دام 14 سنة تقريبا. والعودة الى الوراء تعني الكثير من الدلالات السياسية والانسانية. فالانتاج يقضي ان تقوم الأجهزة العسكرية بتجربة السلاح في الصحاري والمحيطات والجزر النائية الامر الذي يهدد البيئة الكونية بالمزيد من الاضرار. وهو يعني الدخول مجددا في سباق جديد للتسلح النووي الذي كان سمة من سمات «الحرب الباردة» حين كانت القوى الكبرى تتنافس في «عرض عضلاتها» للتخويف من دون ان تستخدمها نظرا إلى مخاطرها المتبادلة.

والأهم من ذلك يعني قرار العودة الى انتاج النووي هو دخول العالم في سباق لا منافس فيه وانفاق المليارات من الدولارات على قطاع عسكري غير مسموح باستخدامه الا في حالات استثنائية ودفاعية. فالمخاطر الناجمة عن الاستخدام تتجاوز حدود المكان وتطول المجموعات البشرية على مساحات غير معروفة، أو على الأقل يصعب ضبط اضرارها في بيئة محددة.

اذن نحن (العالم وليس العرب والدول المسلمة فقط) أمام تحديات جديدة تواجه عقلية شريرة تسيطر على البنتاغون وسياسة مخيفة لا تستبعد استخدام الاسلحة النووية لتحقيق غايات ايديولوجية (عنصرية) متطرفة. وهنا بالضبط يبدأ الخطر على عالم ما بعد «الحرب الباردة»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 233 - السبت 26 أبريل 2003م الموافق 23 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً