العدد 233 - السبت 26 أبريل 2003م الموافق 23 صفر 1424هـ

عراق الغد... ضرورة التسامح

حسن عبدالهادي بوخمسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

تحققت الهزيمة الكاملة والقاسية بالحكم البعثي وانهار أخيرا نظامه الشمولي الذي بسط سيطرته على بلاد الرافدين لمدة خمسة وثلاثين عاما كانت حافلة بالتوترات السياسية والاضطرابات الاجتماعية الداخلية وبالحروب العسكرية المتتالية مع دول الجوار وانتهت حقبة زمنية عاش خلالها العراق أشد مراحله وأصعبها وأكثرها دموية وإرهابا.

ومن المؤكد أن النكسة التي مني بها البعث ستطول بآثارها فكره وقيمه ومبادئه التي طالما عمل على ترسيخها وتكريسها في عقول وأذهان أبناء شعبه، فبمقدار ما كانت الهزيمة موجعة وقاضية لرموزه ومؤسساته بالمقدار نفسه ستكون مدمرة وناسفة لهذه الآراء والقيم.

لكن من المؤكد أيضا أن البعض من أفراد هذا الشعب ممن يعتقد بهذا الفكر وينتمي إلى هذا التوجه وهم ليسوا قلة - يبلغ تعدادهم حسب الاحصاءات الرسمية المليون بعثي - لايزالون يوجدون ويعيشون مع أبناء شعبهم الآخرين، ومعظمهم متهم بارتكاب جرائم وفظاعات لا انسانية بشكل مباشر بحق اخوانه في المجتمع العراقي من المناضلين والمعارضين للنظام البائد من قبيل ممارسة التنكيل والتعذيب الجسدي للسجناء والمعتقلين والاعتداء على الشرف العائلي والقيام بعمليات الاغتصاب للنساء والمرتهنات في السجون، وقد تصل إلى حد ارتكاب جرائم القتل والاعدام بحق من هم في المعتقلات السياسية.

ومن لم يقم بهذه الجرائم من البعثين مباشرة فهو بالتأكيد قد ساهم في التسبب بالأذى وإلحاق العذاب للمعارضة مثل تعقبهم ورصد تحركاتهم والقيام بإبلاغ السلطات الأمنية عن مواقع وجودهم لسجنهم واعتقالهم.

وكثير من الاحيان كان يحدث الاتهام والتجني على الكثير من الاشخاص الأبرياء الذين لم تكن لهم أية صلة وعلاقة بالجهات السياسية الرافضة للسلطة، فكان الفرد يسجن ويعذب لمجرد الظن والشبهة بانتمائه إليها. ونتيجة لذلك تفاقمت وتكرست وعبر عقود من سنين الحكم البعثي مآسٍ اجتماعية هائلة تمثلت في عدم خلو عائلة واحدة من ملايين العوائل العراقية من فقد أو غياب أحد أبنائها أو بناتها، إما بسبب التصفية الجسدية أو تغييبه في احدى معتقلات الحكم. وفي أحسن الأحوال نتيجة الحروب والمغامرات العسكرية المتتالية التي خاضها صدام حسين في فترة حكمه.

أمام هذا الواقع المرير، ماذا نتوقع من ردة فعل المعارضة حينما تتولى زمام الأمور وتدير دفة الحكم في الأيام والأشهر المقبلة؟ واين قلنا أن السلطة الجديدة ستقفز وتتسامى بمشاعرها وتغض الطرف عن ماضيها الأليم وتتسامح مع من أساء إليها وارتكب بحقها كل هذه الجرائم وذلك لوعيها وإلمامها بحرج ودقة المرحلة الراهنة التي تعيشها وخطورتها وبالتالي هي تلتزم بهذا الموقف الخلقي الرفيع حفاظا على المكتسبات الكبرى والمصالح العليا للوطن، لو سلمنا بكل ذلك، لكن من يضمن عدم انبعاث الثارات وحالات الانتقام المروعة وتفشيها وانتشارها عند المواطن العادي المفجوع والمثكول بابنه أو أخيه أو أبيه وما إلى ذلك، وهذا ما أعتقده وأتوقعه غالبا، وهذا ما يحدث بشكل طبيعي ودراماتيكي في كل المجتمعات الإنسانية بعد وقوع التحولات الاجتماعية الضخمة من ثورات وانتفاضات وما قد يتبعها من تغير وتبدل للأنظمة الدكتاتورية السائدة عليها.

وحينما يكون الوضع في الداخل العراقي مقسما بهذه الظاهرة الخطيرة يصبح لزاما على المسئولين والمتصدين لإدارة الأمور وشئون البلاد المبادرة والسرعة في معالجته وضبط الساحة من الانقلاب والانجراف في النهاية إلى دوامة الحروب الأهلية والصراعات الداخلية الدموية التي لا تحمد عقباها والتي لا تنتهي عادة إلا بتمزيق الوطن وتدميره.

ويمكن التحرك العاجل لتحقيق هذا القرض في اتجاهين وعلى مستويين:

- المستوى القانوني: وأقصد به اتخاذ الخطوات العملية باقرار القانون وتنفيذ الاجراءات والعقوبات الصارمة الدستورية منها والشرعية وعبر الهيئات والمؤسسات الرسمية النظامية بحق كل من ثبتت إدانته وتورطه المباشر في ارتكاب مثل هذه الانتهاكات الصارخة للحقوق الإنسانية حتى لو تطلب ذلك تنفيذ عقوبة الإعدام على من يستحقها فهو قصاص شرعي وانساني مطلوب، فلو لم يتم ذلك بالسرعة والحزم الكافيين لما كان ذلك وسيلة لتهدئة النفوس وجبر الخواطر ومن ثم عدم اقتناع صاحب كل مظلمة بنيل حقه ومعاقبة ظالمه مما يؤدي به إلى اصراره على الاقتصاص منه بنفسه من دون مراعاة للتبعات الكارثية لذلك.

- الاتجاه الفكري والثقافي. من خلال التركيز والتأكيد على بث ثقافة التسامح فيما بيننا كأبناء مجتمع واحد وضرورة التنازل عن الثأر الفردي بالذات في الحالات التي لم يصل فيها الجرم إلى حد الموت أو القتل، وأما عند بلوغ الجريمة لهذا المستوى فالقانون هو الذي يجب سيادته والعمل بمقتضاه.

وكذلك العمل على إشاعة أجواء العفو بدءا من الزعامات والوجاهات المعروفة مثل مشائخ العشائر أو علماء الدين أو القيادات الثقافية المرموقة ممن لهم أنفسم ثارات شخصية إذ المبادرة من قبلهم بالتنازل والتغاضي عنها وإعلام الناس بذلك وإخبارهم بها وليس فقط المحيطين بهم والمقربين منهم لكي يصبح هذا التصرف سلوكا حضاريا يحتدى ويقتدى به وهو بالتأكيد يتوافق مع روح الشرع وقيمه.

كما يمكن أن يتوج ويختم هذا الجو المفعم بروح الاغضاء والمسامحة باستصدار قانون خاص بالعفو عن ذوي الجرائم البسيطة لتكريس وتعميق هذه الروحية في نفوس أبناء العراق

العدد 233 - السبت 26 أبريل 2003م الموافق 23 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً