العدد 237 - الأربعاء 30 أبريل 2003م الموافق 27 صفر 1424هـ

وقفة مع المتطوعين التونسيين في حرب العراق

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

«المتطوعون التونسيون في حرب العراق» موضوع يستحق التوقف والتأمل. فهؤلاء الذين قرروا في لحظة من لحظات التفاعل والتأثر الانتقال إلى بغداد لتقديم أرواحهم فداء لبلد وشعب أحسوا بعمق الانتماء إليهما، أصيبوا بخيبة أمل مدمرة عندما اكتشفوا في عين المكان أنهم وقعوا في مأزق لم يتوقعوه مطلقا. فأي مأزق أشد عندما تختلط الأمور عند متطوع، ويفقد القدرة على التمييز بين الصديق والعدو، والحليف والخائن. وتبلغ التراجيديا عنده حدها الأقصى عندما ينتهي إلى التساؤل عن شرعية القضية بعد أن تخلى عنها أصحابها، أو أنهم فهموها على غير ما فهمها؟. ذهبوا لخوض ملحمة طلبا للشهادة، فاكتشفوا في قلب المعركة عراقا مختلفا عما كانوا يشاهدونه ويرويه لهم بعض «الوسطاء الحزبيين».

المتطوعون التونسيون في حرب العراق ليسوا ظاهرة جديدة في التاريخ الحديث للبلاد التونسية. لقد انتقل أجدادهم مشيا على الأقدام خلال العام 1948 إلى الحدود المصرية الفلسطينية رغبة في المشاركة في قتال العصابات الصهيونية، وعادوا خائبين عندما منعوا من الالتحاق بجبهة بحجة وقوع الهدنة وانتهاء الحرب. كما احتوت معظم الفصائل المسلحة الفلسطينية في صفوفها على شبان تونسيين، قضوا أهم فترات حياتهم في خدمة قضية آمنوا بها وفداها بعضهم بحياته، وصدم الكثير منهم بالفجوة العميقة بين شعارات الثورة ومسلكيات «الثوريين»، وعاش بعضهم من جراء ذلك حوادث درامية كانت أشبه بالكوابيس.

وعندما مالت البوصلة نحو البوسنة أو أفغانستان، وأصبح النضال يطلق عليه جهادا، شق العشرات وربما المئات من التونسيين طريقهم إلى أوروبا وآسيا الوسطى ليتعرفوا على عالم مغاير تماما لعالمهم، وتدربوا على مختلف الأسلحة، وانتهى الأمر ببعضهم إلى أن يصبحوا عناصر مجندة ومرشحة للموت في تنظيمات يظن القائمون عليها بأنهم قادرون على تغيير العالم، عن طريق الاغتيالات والتفجيرات.

كل هذه المحطات تكشف أن التونسي، على رغم عمق الثقافة القطرية التي حرصت التوجهات السياسية البورقيبية على أن ترسيخها فيه، بقي مؤمنا بوجود هوية أوسع من دائرة الوطن، وانتماء أشمل من جغرافية مسقط رأسه. وهي، خلافا لما يعتقده البعض، خاصية إيجابية في شخصية التونسي الذي أثبتت الحوادث الأخيرة أنه لم تستهلكه نهائيا ثقافة السوق، ولم تدمره دوامة الشيء المعتاد، ولم يحوله موت السياسة وهشاشة الأحزاب وتسطح خطاب النخبة إلى جثة أو هيكل أجوف. فالذين تطوعوا للدفاع عن العراق لم يكونوا عاطلين عن العمل أو يمرون بأزمات نفسية، بل منهم المعلم والأستاذ والطالب في الفنون الجميلة. والذي قام بعملية فدائية شمالي بغداد (من مواليد 1979) كان بصدد إعداد أطروحة دكتوراه في الإعلامية الصناعية والآلية. لكن عندما يرتفع الوجدان بصاحبه، يحرره فجأة من قيود كثيرة، ويقلب الأوليات عنده رأسا على عقب، ويحوله إلى كائن جديد. فالشاب التونسي المتهم بأنه مائع وجبان وكاره للسياسة والسياسيين ومدمن على الرقص واللذة والفن الهابط، هو الذي انقلب قبل أسابيع قليلة إلى كائن زاهد في الدنيا وملذاتها، ومستعد للمشاركة في معركة عسكرية فاشلة في كل المقاييس، لكنه رأى فيها قضية عادلة ووسيلة ليتطهر من كل أدران التفاهة المحيطة به. فالتونسي جاهز لكي يغير ما بنفسه لكن قياداته المزعومة تطوف بعيدا عن فلكه.

المشكلة الرئيسية التي واجهت هؤلاء المتطوعين هي أن رصيدهم كان الحماس وحده، ولم يكونوا مسلحين برؤية متكاملة عن الطرف الذي سيسلمون أنفسهم إليه. كان مصدر معلوماتهم النظام العراقي وما ارتبط به من مجموعات حزبية صغيرة باحثة عن دور محلي. لم تكن غالبيتهم تعرف حجم الديكتاتورية التي مارسها النظام على شعبه، وماذا سيكون تأثير مخلفاتها على إدارة المعركة. هم لم يطرحوا هذا الإشكال لأن العراق كان عندهم قيمة مجردة ممثلة في أرض عربية إسلامية مهددة بالاحتلال. لهذا لم يستعدوا إطلاقا للصعقات التي بدأت ترجهم منذ وصولهم إلى بغداد، أو عندما تم توزيعهم بشكل عشوائي على بقية المحافظات. لم يدركوا إلا متأخرا أنهم تحولوا إلى دروع بشرية تختفي وراءهم قوات الجيش العراقي والحرس الجمهوري. ثم ازدادوا ذهولا عندما وجدوا أنفسهم بأسلحتهم البسيطة وتدريبهم المحدود يواجهون أعتى قوة عسكرية في العالم بعد أن فر الجنود من ساحات المعركة. وبلغت مأساتهم قمتها عندما اختلف المواطنون العراقيون في شأنهم، بين من قدم إليهم شيئا من المساعدة والطعام والمال بعد أن فقدوا كل شيء وضاقت بهم السبل، وبين من احتج على وجودهم وأغلظ لهم القول وطالبهم بالرحيل ووصفهم بالإرهابيين والمرتزقة، وبين من استغل مأزقهم ليبتز ما بقي لديهم من مال رجاء مقابل إيصالهم إلى إحدى المدن. ولعل الكثير من المتطوعين العرب الذين عادوا إلى بلدانهم يحمدون الله على تحكم أنظمتهم في ردود فعل أجهزتها الأمنية ولم تعاملهم كما عاملت «الأفغان العرب» أو الذين تطوعوا في الحرب البوسنية.

قصص المتطوعين في حرب العراق وشهاداتهم، لا تستمد أهميتها فقط من قيمتها التاريخية، ومن تفاصيلها المساعدة على فهم الانهيار السريع لنظام كان يخيف القريب والبعيد، ولكن إضافة إلى ذلك هناك جوانب لا تقل أهمية. إن الزخم الخاطفي الذي صاحب هذه الحرب، وكل الحروب العربية السابقة، على رغم جوانبه السلبية على الصعيدين الفكري والسياسي، فإنه كشف في المقابل عجز القيادات السياسية والحزبية والفكرية في العالم العربي عن استثمار ما تملكه الأمة من طاقات وإمكانات بشرية ومادية. إذ على رغم تكرار فشل هذه القيادات منذ عصر النهضة إلى الآن، فإن الجماهير العربية العريضة بقيت تجدد ثقتها بكل من يوهمها بأن «المعركة الحاسمة» ستخاض بها. والمعضلة أن هذه التراجيديا لا تقف عند المعارك العسكرية، ولكنها تشمل كل الجوانب. لقد تمت مطالبة الجماهير نفسها بتقديم تضحيات من أجل بناء اقتصاد وطني وعادل. كما تمت دعوتها إلى التخلي عن حقوقها السياسية وحتى المدنية من أجل المعركة القومية. وحصلت مخادعتها في أكثر من مناسبة بإيهامها بأن تجديد البيعة لهذه السلطة أو تلك سيكون المقدمة الأساسية لتحقيق الانفتاح السياسي وتعميم الحريات وحقوق الإنسان. وكل هذه التجارب تلتقي على نقطة مركزية: انهيار نظام بغداد لم يكن هزيمة شخص أو نمط حكم، ولكن أيضا هو إعلان عن فشل كل مشروعات التغيير والنهوض في العالم العربي. فعلى رغم حجم الكارثة التي حصلت يلاحظ أن الحكام غير مستعدين لتغيير وسائل حكمهم. فهم يعتقدون بأن ما جرى لصدام لن يحصل لهم لأنهم لم يرتكبوا أخطاءه. وكذلك الشأن بالنسبة إلى النخب التي لايزال الكثير منها غير مستعد للقيام بمراجعات جذرية ومؤلمة أو على الأقل الترفع عن معاركه الصغيرة والتافهة التي لا تنتهي، وذلك على رغم كثرة الحديث هذه الأيام عن ضرورة ممارسة «النقد الذاتي». وعندما يكون هذا حال السلطان والنخب كيف يطلب إلى الجماهير أن يتغير حالها وأن تقود بنفسها ثوراتها السياسية والاجتماعية والثقافية؟. إنه المأزق التاريخي

العدد 237 - الأربعاء 30 أبريل 2003م الموافق 27 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً