العدد 245 - الخميس 08 مايو 2003م الموافق 06 ربيع الاول 1424هـ

عبدالله المدني يبحث علاقات الهند بالخليج ماضيا

وسط دعوة إلى التوجه شرقا

يستند عبدالله المدني في رؤيته للنهج الذي ينبغي الاتكاء عليه بالنسبة إلى العلاقات الدولية التي تربط هذه المنطقة بالعالم على أساس من ضرورة تغليب المصالح على الأيديولوجيا. ويرى المدني في النموذج الهندي وكيفية التعاطي معه مثالا صارخا على الرؤية الالتفافية التي عمدت إلى ترسيم العلاقات الدولية والسياسات الخارجية وفق أنموذج الأيديولوجيا، في حين أن المطلوب هو تغليب المصالح، وجعلها البوصلة التي تؤشر بإبرتها تجاه الهند بوصفها ذات قواسم مشتركة مع منطقة الخليج، منذ أزمان سحيقة وحتى يومنا هذا.

فالهند كما يراها المدني ذات علاقة تاريخية متميزة بمنطقة الخليج، ومزية هذه العلاقة أنها خلت من الأحقاد والتوترات والحروب والأزمات المباشرة، وبالتالي فإن هذه الأسباب تجعل من إمكان الذهاب نحو إقامة جسور صلبة في الشراكة الحقيقية أمرا ممكنا، بل ومطلوبا، في ضوء انتفاء الأطماع الهندية.

ويذكر المدني أن علاقات منطقة الخليج العربي بالهند في ضوء الامتداد التاريخي الراسخ، وفي ضوء معطيات الواقع المعاصر، لم تشبها شائبة، بل خلت مما يمكن تصنيفه على أنه من باب التهديد لمنطقة الخليج في أي حقبة كانت من حقب التاريخ... بل يؤكد المدني على المواقف السياسية المشرفة التي رسمت بعضا من سياسات الهند الخارجية، والتي تلتقي في أهدافها ومراميها وطموحاتها مع المنظور نفسه الذي يوجه مسيراتنا، ضاربا أمثلة مواقف الهند المشرفة من كفاحنا ضد الوجود الاستعماري، أو لجهة مناصرة قضايانا القومية الأساسية والثابتة.

وينتقد المدني عدم التوجه بالجدية الكافية صوب تعضيد هذه العلاقة، على رغم كون الهند تمثل إحدى التجارب المتميزة لجهة النماء الصناعي، والتطور العلمي، والتسارع التكنولوجي، إضافة إلى كونها نموذجا محترما من النماذج الديمقراطية في العالم، ومن الفضاءات اللافتة من حيث شيوع مناخات التعددية، وحتى من زاوية ترسيخ المجتمع المدني وإقامته على أسس متينة.

إن الأسباب التاريخية، وصفاء العلاقات في ضوء عدم دخولها دهاليز السيطرة وإبراز نوايا الشر، علاوة على الأفضال التي أسهمت الهند بها على هذه المنطقة، ليست أسبابا كافية - كما يرى المدني - لتجعل من صانع القرار السياسي يبدي أي نوع من أنواع الاكتراث لتعضيد وتقوية هذه العلاقات... بل نجد المدني يلقي باللوم على هذا الصانع المتلهف - على حد تعبيره - لتعزيز روابط بلاده مع قوى تضمر الشر لنا، أو قوى بيننا وبينها حقب من المرارة التاريخية، أو قوى لا وزن لها في العالم المعاصر، وتعاني عجزا، ولا ترتجى منها الفائدة. إنما تقدم دعوة ما فتئ المدني ينافح عنها في غير منبر من المنابر، هذه الدعوة تجاوزت هذه المرة إطار المقال في صحيفة سيارة، أو في مقابلة أثيرية، لتكون في إصدار يعد نادرا في موضوعه، إذ قلما تم التطرق لعلاقات الخليج بالهند إجمالا، إلا في سياقات بالكاد نلحظها حين يتم الحديث عن المستعمر وجهازه الإداري الذي احتوى نسبة معتبرة من الهنود، أو عبر عرض سريع عابر لسيرة شخصية وطأت قدماها الهند قسرا أو طلبا للرزق والاتجار، وخلاف ذلك يبدو الموضوع جديدا... كتدوين وتأريخ وبحث في تاريخ هقذه المنطقة، وإن كان متقادما زمنيا، وتكاد خيوطه الأولى تلتقي بأقدم الحضارات التي انبثقت في هذه المنطقة في العالم.

عبدالله المدني بوصفه أحد البحاثة المعنيين بالشئون الآسيوية - كما يجري تقديمه دائما - طالعنا أخيرا بثاني إصدارته، وأول اهتماماته «الهند» تحديدا، وهو يرى كغيره من الكتاب النموذج الهندي بوصفه نموذجا راقيا، استطاع أن يرسخ تقاليد أكبر ديمقراطية في العالم، ونجح في خلق نهضته من دون استناد على رؤية معلبة قادمة بأكملها من الخارج. إصدار المدني الذي نقدم له في هذه الأسطر بعنوان: «معالم الدور الهندي في الخليج العربي في النصف الأول من القرن العشرين، علاقات الرعيل الأول مع الهند» وهو يمثل تطوافا لا على الفترة التي طبعت على غلاف الكتاب فحسب، بل يذهب عميقا وبعيدا صوب تأكيد متانة هذه العلاقة من ناحية، واستراتيجيتها من ناحية ثانية، ليخلص في نهاية المطاف إلى نقده للكيفية التي تم التعاطي بها في الهند في ضوء عالم المصالح المشتركة.

يقع الكتاب في قسمين، الأول منهما يتحدث عن الخلفية التاريخية لعلاقة الخليج بالهند، ويتمحور الثاني حول معالم الدور الهندي في الخليج. ويحمل كل قسم عناوينه الفرعية فيتناسل عن القسم الأول: علاقة الهند بالخليح في العصور القديمة، وفي فترة ما قبل الإسلام، وفي حقبة الهيمنة البرتغالية، وفي حقبة الهيمنة البريطانية. أما القسم الثاني فيعالج هذه المعالم من زوايا: الدور الهندي في مجال صيد اللؤلؤ، اعتماد الخليج تجاريا على الهند، دور الهند في إثراء البيوتات التجارية الخليجية، دور الهند في حركة الثقافة واليقظة الخليجية، تأثير الهند على الحركة الوطنية في الخليج، الهند وعملية التحديث في الخليج، دور التجار الهنود في الخليج، تأثير الهند السوسيوثقافي على الخليج.

ويشير المدني في مقدمة كتابه إلى أن السبب الكامن وراء وضعه هذا المؤلَّف أن الأجيال الشابة في الخليج لا تملك تصورا كاملا للعلاقات المتشعبة التي نشأت بين الهنود والرعيل الخليجي الأول. مضيفا عن هذه الأجيال التي نشأت في فترة الطفرة النفطية، وما صاحبها من هز لأركان منظومة القيم، وانبهار متعاظم بالنموذج الغربي، لا تدرك هذا الدور الهندي إلا في سياق العمالة الفقيرة، ونسج حكايات التندر والتفكه حولهم، من دون إحاطة جلية بالدرر والكنوز المتموضعة في هذه الرقعة الجغرافية من العالم، ومن دون إدراك لتجذر هذه العلاقة وعمقها وتقادمها، وكون الهند - من ناحية أخرى - تسير بخطى حثيثة لتتويج مسيرتها التحديثية بالظفر، وتلتحق بركب القوى ذات المهابة في المشهد العالمي.

إن هذا الكتاب على صغر حجمه يقدم للقارئ تنويعات مختلفة على اللحن الأساسي لهذا الدور وتلك العلاقة، ويبرز بوضوح مدى الفائدة المتحصل عليها من وراء هذه العلاقات القديمة، شارحا ومفصلا لمختلف الجوانب التي يصعب إغفالها بحال من الأحوال. وسيجد القارئ أنه أمام سفر نادر من ناحية، سهل القراءة يحمل إمتاعا، كما سيقف حتما ولا بد أمام استراتيجية تأليفية، وقبض جميل في كيفية عرض الوقائع والوثائق بأسلوبية تتقاطع في المعالجة بين ينبغيات الصحافة ذات النفس السريع، وبين متطلبات تأليف كتاب. إن الانطباع الأول الذي سيخرج به قارئ هذا الكتاب القدرة الفائقة التي يتمتع بها المدني في إيصال رسالته الأساسية أولا، وفي الكيفية التي مكنته من جعل القارئ يقلب هذه الصفحات بسرعة، ويتساءل عن هذا الدور العظيم ومدى انزوائه وتواريه، ثم في أسلوب العرض الشائق.

إن هذا الكتاب صغير الحجم يرسم شبه خريطة لما كان عليه الوضع، وما ينبغي عليه أن يكونه، فهذه العلاقات الضاربة منذ أقدم الأزمان، تجلى أحد إسهاماتها في الكثير من المظاهر الإدارية، والاقتصادية، والتحديثية عموما، بل وسجلت حضورا قويا حتى على مستوى اللغة الدراجة المستخدمة في التخاطب اليومي، وبحسب دعوة الكتاب لا ينبغي أن تظل في هذا الأفق الهامشي.

عبدالله المدني. معالم الدور الهندي في الخليج العربي في النصف الأول من القرن العشرين، علاقات الرعيل الأول مع الهند. المنامة: مؤسسة الأيام للصحافة والنشر والتوزيع، 2002، 128 صفحة

العدد 245 - الخميس 08 مايو 2003م الموافق 06 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً