العدد 249 - الإثنين 12 مايو 2003م الموافق 10 ربيع الاول 1424هـ

من قانون عيب السادات إلى دعاة «أمن الصحافة»!

كما تكونوا... تكن صحافتكم!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الإعلام مرة أخرى وأخرى... فهنا يتجمع الجزء الأكبر من القيح والصديد والإفلاس. ومادمنا نتعامل مع القلم كالمزمار، ونريد من الكاتب أن يعمل راقصة في وزارات الإعلام، فلن نضمن مشاركة القلم في ترشيد المسيرة، أية مسيرة على الإطلاق.

طبعا ينبغي أن ننسب الفضل الى أهله، فنذكر ان الأستاذ الأكبر المجلي في هذا الميدان هو الرئيس المصري السابق أنور السادات، الذي قاد عملية بهلوانية عجيبة، انتهت بشن حملة اعتقالات طالت عشرة آلاف مواطن مصري في ليلة واحدة من شهر سبتمبر/أيلول 1981! والسادات كان فنانا بارعا في إصدار القوانين والتشريعات المتنوعة لتكبيل أفواه الناس، من الطلبة إلى الصحافيين إلى الجامعيين... حتى انتهى به الأمر إلى إصدار «قانون العيب»... ليعلّم الشعب المصري العريق كله معنى العيب وأخلاق أبناء البلد!!! ولكن يجب ألا ننسى أن هناك طابورا من حملة الأقلام كان «يحرّض» السادات على سياساته أيا تكن ويزيّنها، ويتهم كل هؤلاء المواطنين الشرفاء بالعمالة للأجنبي، من الشيخ الشعراوي (رحمه الله) إلى البابا شنودة ومحمد حسنين هيكل، مرورا بكل ألوان الطيف السياسي في مصر من اليسار واليمين، والمسلمين والأقباط. ولو لم يكن غالي شكري صاحب «البجعة تودّع الصياد» في منفاه لاعتقله هو وبجعته وضمّه إلى خانة العملاء!!

معونة الشتاء!

وإذا كانت قصة السادات قديمة بما فيها من أسماء من «طبّالي» الأقلام قبل ربع قرن لم يبق منهم إلا القليل، إلا ان النسخة الأحدث من القصة تتكرر اليوم مع سقوط صنم تكريت. والذي يجب ألا ننساه ان صدام حسين لم يكن وحده، بل كان يشد ظهره بجحافل من «الكتبة» ومرتزقة الأقلام، عراقيين وعربا «أقحاحا»!

أذكر ان أحدهم، من شمال افريقيا دون تحديد، تحدّث في مقابلة على المكشوف قبل سنوات كيف موّله العراق في إصدار مجلة في الخارج لتنضم إلى جوقة المنشدين، وكيف ذهب إلى بغداد ليتسلم «معونته الشتوية»، وكيف غادرها مغضبا لانه اختلف معهم على المبلغ وعدد النسخ التي سبق ان اتفق معهم على شرائها منه... ذكر ذلك دون خجل أو استحياء. ومن هذه النماذج أشباه ونظائر، ننتظر أن تكشف الأيام قوائم أسمائهم في القريب، من الذين كانوا يتسلّمون «إحسانات» و«عطايا» و«صدقات» صدام!

الرجعيون

والحديث اليوم عن قانون «أمن الصحافة» ليس من باب الترف الفكري أو المماحكات الفارغة، وإنما يمس مستقبل البلد ومساره السياسي في الصميم. وإذا وجد في أجواء الانفتاح بعض الكتبة من يدعو إلى النكوص والتراجع بل ويتبع سبيل تحريض الحاكم على المحكوم، ويلعب على أوتار الطائفية السوداء التي ما دخلت بلدا إلا أفسدته، فذلك ما ينبغي أن ينبه الجميع إلى مكامن الخطر. ولكن السلوى أن هذا العدد الداعي إلى التراجع مازال محدودا، وإن كان يخشى على مستقبل البلد إذا ما ظل الخرق يتسع فيتشجع «نجوم» آخرون، من الذين كانوا من أشد المحامين والمدافعين المستبسلين عن كل الممارسات السلبية منها والإيجابية في فترة سيادة «أمن الدولة». وما يزيد من هذه المخاوف ان تلك الرؤوس أطلت في مناسبات سابقة لتعزف على الأنغام القديمة، ولعلكم تذكرون محاولاتهم إقحام بيوت الله في شغب شارع المعارض ليلة الاحتفالات برأس السنة.

على أن النقلة التي شهدتها البحرين خلال العامين الأخيرين، وأهمها الانفتاح الإعلامي وحرية النشر ضمن الحدود المعروفة للجميع، مازالت تواجه ممانعة حتى اليوم من البعض الذي ينظر إلى الحرية كالطاعون!

أحد جوانب المشكلة يتمثل في النظرة إلى موضوع النشر، وهي مسألة ثقافية ذات طابع سياسي تواجه بقية شعوب الأرض، حتى في الدول ذات التقاليد الديمقراطية. المعسكر الشرقي عالجها بطريقة المنع والتعتيم، وآخر تجلياتها في تعامل الصين مع انتشار مرض سارس، وما أدت إليه تلك السياسة من رفع أعداد الضحايا والتأخر في مساعي مكافحته. لكن تبقى مسألة حق التعبير وحرية الرأي من أهم المؤشرات على حيوية وحضارية المجتمع واحترام الإنسان فيه. مع العلم بأن المواطن سيتكلم حتى لو منع من التعبير عن رأيه في الصحافة أو القنوات الرسمية كالإذاعة والتلفزيون، مع ما يرافق ذلك من شيوع حال التباعد بين المواطن والسلطة، وانتشار الشائعات وتبلبل الرأي العام.

عقلية الرقيب وقوانين الرقابة ينبغي أن يعاد التفكير فيها من جديد، فالحقائق لا يمكن رخفاؤها في عصر الانترنت والثورة المعلوماتية العظمى. ولقد ولى زمن المذابح والتصفيات التي لا يُسمع عنها إلا بعد قرون!

من عبر الماضي القريب

وفي المراجعة المتأنية للتاريخ القريب ما يكفل إلقاء الضوء على الحاضر والمستقبل معا. ونحن في هذه المنطقة من العالم نواجه التحدي ذاته في مجال حرية التعبير: هل نسمح أم نمنع؟ هل نتبع سبيل المكاشفة أم نواصل طريقة التعتيم؟ هل نرجح مبدأ الشفافية أم نواجه قضايانا على طريقة النفي ونفي النفي؟!

طبعا ليس هناك مهارة في سياسة نفي كل ما يقال، انما الحكمة في التعامل الموضوعي مع المشكلات والاعتراف بوجودها إذا أردنا أن نصل فعلا إلى الحلول. فما الذي نفعنا من سياسة التستر على أعداد العاطلين عن العمل في السنوات السابقة؟ المشكلة بدل أن تأخذ طريقها إلى الدراسة الموضوعية والبحث عن الحلول، ركنت على الرف، لتتوالد منها مئات المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... أليس كذلك؟ وقس عليها بقية قضايا الوطن «الحساسة» التي «لا يُفضل» الرقيب الاقتراب منها لكي «لا تثير قضية الطائفية»، وكأن أفضل طرق العلاج تجاهل المرض!

قد يساعدنا أيضا التذكير ببعض تجارب الماضي القريب لفهم أبعاد المسألة، وما نستعرضه من باب الدرس والعبرة وخصوصا انه لن يثير حساسية أحد بعد ان أصبح من ملفات الماضي الذي نتمنى ألا يعود... وإن كان هناك من عشاق «قانون أمن الصحافة» من يبشّرنا بعودته.

في بداية الثمانينات شهدت دولة الإمارات العربية الشقيقة اعتصاما لسوّاق سيارات الأجرة، وأصدرت وزارة الإعلام حينها تعميما على الصحف الإماراتية بمنع نشر الخبر، ولكن «الخليج» قامت بوظيفتها «الشرعية» ولم تلتزم بالأمر الرسمي فنشرت الخبر مع صورة للسوّاق الإماراتيين أمام سياراتهم، فما كان من وزارة الإعلام إلا أن أوقفت الصحيفة لمدة ثلاثة أيام. طبعا اكثر القراء لم يعرفوا السبب حينها، ولكن في اليوم الرابع صدرت الخليج لتعيد نشر الخبر وتشير إلى سبب الإغلاق. ما الذي حدث؟ أخذ الخبر بعدا أكبر من حجمه، والخبر الذي كان بالإمكان أن يمر مرور الكرام، أصبح فضيحة للرقيب.

في بلد خليجي آخر نشرت صحيفة صادرة باللغة الانجليزية صورة لطيار عراقي أسقطت طائرته في بداية الحرب العراقية الإيرانية، فعوقبت الصحيفة بالإغلاق أيضا لأنها تجاوزت السياسة الرسمية في دعم «حارس البوابة الشرقية للأمة العربية».

الآن ونحن نتذكر هذه «الحكايات»، ألا تشعرون اننا كنا في بئر عميقة، لا نور فيها ولا هواء؟ أليست تلك الممارسات أقرب إلى ممارسات محاكم التفتيش في القرون الأوروبية الوسطى؟ نشر صورة لطيار عراقي أسقطت طائرته تمنع الصحيفة من الصدور؟! معقول؟ وصورة سوّاق اعتصموا للمطالبة بحقوقهم تؤدي إلى معاقبة الصحيفة بمنعها عن الصدور؟ ماذا سيتبقى للتاريخ من هذه الحوادث؟ بماذا سيذكر التاريخ «أبطال» هذه القصص؟ وماذا سيقرأ أبناؤنا بعد عشرين عاما لو جاء كاتب في العام 2023 ليذكرهم بمحاولات إعادة «قانون أمن الصحافة»، وأن رئيس تحرير إحدى الصحف في فترة الانفتاح والإصلاح الديمقراطي أُقتيد مع صحافي آخر للتحقيق والمساءلة بسبب نشر خبر «قديم» معروف في أوساط الصحيفة منذ تسعة أيام!!! بل ان الإعلام الخارجي نشره ونقلته وكالة أنباء غربية، فلما ألمحت إليه هذه الصحيفة استدعي الاثنان للتحقيق!

قافلة الأحرار

العالم المتحضر اليوم يكبر تلك الأسماء التي كافحت من أجل رفعة الإنسان، من محمد (ص) والمسيح (ع) والحسين (ع)... انتهاء بالمفكرين والمناضلين الأحرار من الشرق والغرب: فرانز فانون وتشي غيفارا وتشارلز ديكنز وليو تولستوي وتوم بين وماركيز، مع الفارق الكبير طبعا في العطاء والمنزلة والتعظيم.

العمل من أجل رفعة وحرية الانسان هو ما يبقى للتاريخ، لكن «الببغاوات العجماوات» قصيرات النظر لا تدرك هذه الأبعاد الشامخة، حتى توهّم متحدثهم أن الحسين ذهب إلى العراق طلبا للزعامة الدينية والسياسية، وعذره في هذا التخريص جهله الفاحش بالموضوع، ولو كان عقله أكبر لأدرك ان من يطلب الزعامة لم يكن ليذهب إلى العراق المضطرب وإنما سيتوجه إلى اليمن إذ الجبال الشامخة المنيعة والأنصار الكثر كما نصحه بعض معاصريه، أو إلى مصر ذات الأنهار الجارية والثمر الغض والرأي العام المتعاطف المحب لأبناء الرسول. لكن القوم عذرهم جهلهم، واسم الحسين (ع) أرفع من أن تتناوله أقلام الجاهلين. ومن يجهل هذه البديهيات في التاريخ الإسلامي لا نستبعد منه أن يلصق نفسه بالتيار القومي أو الإسلامي. وهيهات أن يكون من يعمل على بث روح الطائفية البغيضة وتحريض الحكام على الشعوب مؤمنا بفكرٍ إسلامي نقي أو يدّعي الانتساب إلى مدرسة الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله...لكنها «شنشنة أعرفها من أخزم»!

البعض يعتذر عنهم بالمرض النفسي وتناول الأقراص المهدئة كل يوم، والمريض النفسي يؤخذ إلى عيادة المرضى النفسانيين بالسلمانية، ولا يترك يقذف الناس بشتائمه حتى لو أشبهت سجع كهان الجاهلية الأولى، خصوصا وانه لا يتحدث عن شخص نكرة أو جمعية سياسية قوامها مئة شخص، وانما يتطاول على رمز من رموز الإسلام وسيد شباب الجنة وحامل أكبر ألوية الحرية في نضال البشرية ضد الظلم والاستبداد. وهذه الفصيلة لا تتعدى على «فئة» من الناس وإنما على ثلاثة أرباع الشعب في البلاد.

كنا نعتقد بأن عهد الإصلاح تجاوز موضوع «الطائفية»البغيض، ولكننا نفاجأ اليوم بمن يلعب بالنار فلا يجد من ينصحه أو يوقفه عند حده، لا قانون مطبوعات ولا قانون النشر ولا قانون يراعي معتقدات ومباديء المجتمع.

الناس هنا تقف وتراجع ما تحقق حتى الآن، وما يظهر لها أن أكبر وأبرز ما تحقق هي هذه المساحة الجيدة من حرية التعبير، بعد فترة كان القانون يجرّم أي تجمع يزيد على خمسة أشخاص. ولكن هؤلاء ما فتئوا يذكّرون الناس بتلك الحقبة، وتتلبّسهم حالة من المس عندما يشاهدون الناس أحرارا في التجمع والتعبير عن آرائهم بعد سنوات من المحرمات والممنوعات، ولن يهدأ لهم بال حتى تعود القيود.

نحن في البحرين أمام خيارين: هل نريد الصحافة مرآة شفافة صادقة، أم مرآة معتمة لا يرى فيها إلا وجه واحد وليعد الآخر إلى المنافي والسجون. وليتذكر حينها دعاة النكوص: كما تكونوا ...تكن صحافتكم، فما ستختارون؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 249 - الإثنين 12 مايو 2003م الموافق 10 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً