العدد 1581 - الأربعاء 03 يناير 2007م الموافق 13 ذي الحجة 1427هـ

إعادة تأسيس الدولة المدنية الحديثة

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

تثبت تطورات الحوادث الجارية، أننا في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى، الى إعادة تأسيس الدولة المدنية، بعد أن تآكلت تجاربها السابقة من ناحية، وبعد أن انتشرت دعوات هاجمة لتأسيس الدولة الدينية من ناحية أخرى.

وعلى رغم أن الإسلام عبر تاريخه، كما يقول العلماء الثقاة، لم يعرف الدولة الدينية بالمعنى الذي يروج له البعض الآن، فإن صرعة الحروب والصراعات الطائفية الدائرة الزاعقة في المنطقة، سواء بين المسلمين وغير المسلمين، أو بين المسلمين السنة والشيعة، إنما تدفع دفعا نحو الاقتتال وصولا لإقامة حكم رجال الدين، على أنقاض حكم المؤسسات والساسة في الدولة المدنية الحديثة، الأمر الذي نرى ملامحه تتبدى هذه الأيام في أكثر من دولة بالمنطقة.

وأظن أن مصر معنية أكثر من غيرها بهذا الأمر لأسباب عدة، أهمها أنها كانت الدولة الأولى، التي بشرت بالدولة المدنية الحديثة، بعد الحملة الفرنسية، وفي ظل حكم الوالي محمد علي وانفتاحه على أوروبا الحديثة، والاقتداء بها في بناء مؤسسات الدولة على أسس عصرية.

ونعلم أن رفاعة رافع الطهطاوي ابن الأزهر الشريف، وتلميذ شيخه حسن العطار، عاد من بعثته الفرنسية محملا بالأفكار التنويرية التحررية الجديدة، مستلهما ومترجما وناشرا مبادئ الحرية والعدالة، ونصوص الدساتير الفرنسية والسويسرية والبلجيكية، ليس فقط من خلال كتابه الأشهر «تخليص الابريز في تلخيص باريز»، وإنما أيضا في مقالاته وأبحاثه التي داوم على نشرها في الفضاء المصري والعربي هاتكا أستار التخلف والاستبداد.

وملخص ما قاله وجوهر ما بشر به هو «الدستور» كعقد اجتماعي سياسي بين الحاكم والمحكوم، وكشرط رسمي لشرعية الحكم، الأمر الذي طوره من بعده تلاميذه أمثال الإمام محمد عبده والأفغاني وسعد زغلول ولطفي السيد، وصولا الى طه حسين وغيرهم من مدرسة الليبرالية والدولة المدنية، المختلفة شكلا وموضوعا عن الدولة الدينية، وفيما لا يختلف عن الحقيقة المؤكدة من أن الدين هو مكون رئيسي من حياتنا وثقافتنا وحضارتنا.

ومن الغريب، أن الدستور نصا وروحا، هو اليوم موضع جدل ومناقشة، بل واختلاف في مصر، بعد قرنين على دعوات الطهطاوي وبعد نحو قرن ونصف قرن على أول دستور مصري صدر في عهد الخديو إسماعيل، وبعد ثلاثة أرباع قرن من صدور أهم دستور، هو الأكثر ليبرالية ألا وهو دستور 1923 وليد ثورة 1919 الشعبية.

وسبب الجدل والخلاف، هو أولا حزمة التعديلات التي طرحها الرئيس محمد حسني مبارك أخيرا، وتشمل تعديل 34 مادة من الدستور الحالي، وثانيا الاتجاه للنص فيه على تحريم قيام أحزاب على أسس دينية ما يضع عقبة دستورية أمام تيارات الإسلام السياسي، وخصوصا جماعة الاخوان المسلمين، وثالثا رد الفعل الحذر أو الرافض والمعترض من جانب قوى وتيارات وأحزاب سياسية معارضة لنظام الحكم، إذ كل يفسر حزمة التعديلات المطروحة وتوقيتها وأسبابها الظاهرة والخفية وفق مقاصده وأهدافه ومخاوفه.

وعلى رغم أنني أضمر كثيرا من التخوف والحذر النابع من تجارب سابقة، فإنني أعتقد أن أهم ما جاء في هذه التعديلات، هو الحظر الدستوري على خلط السياسة بالدين وفض الاشتباك إلى حد كبير بينهما، وبالتالي حرمان تيار الإسلام السياسي الصاعد بقوة من ميزات عدة وجوهرية، أهلته للعمل والانتشار وفق قانون الأمر الواقع، وتحت تأثير الدعوة الدينية على الجماهير في الداخل من ناحية, وبسبب صعود تيارات إسلامية في دول عدة في المنطقة، من المغرب والجزائر غربا، إلى الأردن ولبنان والعراق شرقا، مرورا بالخليج من ناحية أخرى.

ولقد قرأت كلاما لأحد فلاسفة الحزب الوطني الحاكم، يؤكد فيه أن هذا الحظر الدستوري على الأحزاب الدينية، يكمل بناء الدولة الحديثة، وهو كلام مهم، لكن المؤكد في اعتقادي أن ذلك وحده لا يكفي لقيام الدولة المدنية، ولا يضمن وحده شرعيتها فضلا عن استقرارها واستمرارها وخصوصا في الأجواء العاصفة التي تجري نحو تقسيم الدول العربية على أسس طائفية ودينية، كما نشاهد في العراق ولبنان وفلسطين وغيرها!

إننا ونحن أمام فرصة هائلة لأكبر تعديل دستوري خلال نصف القرن الأخير، وفي خضم الحديث المكرر والمعاد عن الإصلاح الديمقراطي، وفي ظل الهاجس الخائف من بروز التيارات الدينية الطامحة في الحكم، يجب أن نعيد صوغ فلسفة الحكم لإعادة تأسيس الدولة المدنية الحديثة، وتحديد هويتها ومعتقدها، أي دولة ديمقراطية تستمد شرعيتها من الشعب وأصوات الناخبين، وتقيم علاقتها بمواطنيها على أساس عقد اجتماعي سياسي حديث، يصون الحريات العامة والحقوق السياسية والمدنية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، من دون تمييز بسبب الدين أو العقيدة أو اللون أو الجنس، في ظل قانون عادل وقضاء مستقل وصحافة حرة تكشف وتنير.

ولأننا لا نملك هنا إلا التمني، فإننا نتمنى أن تخضع حزمة التعديلات الدستورية المطروحة، للحوار العام الواسع والمعمق والمتأني والمتكافئ، بين كل القوى والتيارات الوطنية، وألا تخضع للسلق السريع أو التفصيل على أيدي ترزية القوانين، كما حدث في التعديل السابق للمادة (76) الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، وألا تمارس الغالبية البرلمانية للحزب الحاكم «دكتاتوريتها» في الموافقة الميكانيكية والتمرير العصبي، لأن الأمر لا يتعلق بمصالح وأهداف هذا الحزب بقدر ما يتعلق ببناء الدولة المدنية الحديثة!

ولبناء هذه الدولة أسس وشروط، أهمها التأكيد على الطابع المدني لها، وترسيخ حق المواطنة لكل المواطنين من دون تمييز، وترسيخ الحريات العامة والحقوق الرئيسية للكافة، ومن ثم صوغ دستور محدد المعالم، كوثيقة سياسية اجتماعية تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الدولة ومواطنيها، وتصون حرية وحق المواطنة، وتفصل بدقة وإحكام بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتضمن التعددية السياسية والفكرية والحزبية وتداول السلطة عبر انتخابات نزيهة وحرة، غير خاضعة للتزييف والتزوير، وفي ظل رقابة شعبية مزدوجة من البرلمان المنتخب، ومن الصحافة الحرة ومن منظمات المجتمع المدني المستقلة.

هذا إذا كنا فعلا نهدف إلى إعادة تأسيس الدولة المدنية الحديثة، التي تواجه اليوم أكثر من أي وقت مضى، تحديات التيارات السياسية الدينية، القائمة على فلسفة مختلفة وعلى ركائز مخالفة، ودعاوى للحكم باسم الله.

أما إذا كان الهدف هو مجرد تعديل بعض مواد الدستور لسد نقص أو مواجهة خطر حال، أو قطع الطريق على إصلاح ديمقراطي حقيقي، أو تمهيد الطريق لتغيير في شخوص النظام فإن الأمر يصبح جد خطير، لأنه تلاعب بالمشاعر وإرضاء للرغبات وتجاهل لمصالح الشعب الحقيقية والمؤجلة حتى أصابها اليأس والإحباط.

وإذا كنا نبلع حماس المتحمسين باندفاع لحزمة التعديلات الدستورية المطروحة، فإننا يجب أن نتفهم بالتوازي خوف الخائفين وهاجس الحذرين لأن التجارب القريبة والبعيدة ولدت ضرورات الخوف والحذر، ولنا في سلق تعديل المادة (76) من الدستور في العام 2005، والعجلة في إقرارها وكل ما حواه صوغها من قيود وسدود وشروط تعجيزية، خير مثال، ما انعكس سلبيا على حياتنا السياسية عموما، فأهدر الهدف الأصلي من تعديلها، وها نحن نعود اليوم إلى إعادة تعديلها ربما تخفيفا من بعض القيود، لعلّ وعسى!

ولا مفر والحال كذلك من طرح اقتراح التعديلات على الأحزاب والمنظمات والنخب والتيارات المختلفة في المجتمع، وإدارة حوار معمق وشفاف وصريح، للوصول إلى توافق وطني بشأن ما يجب أن يكون صالحا ومؤسسا للدولة المدنية الحديثة، من دون أن يلهينا الضجيج الإعلامي والتأييد السياسي الصاخب عن الهدف الرئيسي.

لقد طالب رئيس الدولة، مجلسي الشعب والشورى، بمناقشة ما اقترحه من حزمة تعديلات على الدستور القائم، لكنه فيما أفهم لم يتمسك بحرفية ما طرح، ولم يفرض شرطا محددا، ولم يمنع المناقشة بشأن تعديل التعديل، فإن كان ما فهمته صحيحا، فإن الحوار والمناقشة لا يجب أن يكونا مقصورين على البرلمان أو الأحزاب القائمة وحدها، لكن يجب أن يمتد الحوار بطول الوطن وعرضه، وبتمهل وتعمق لنضع أسسا جديدة فعلا للدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.

وفي هذا الإطار، فالحذر كل الحذر، من التعسف في فرض تعديلات الدستور وفق وجهة نظر واحدة، ومن التعجل في إقرارها برلمانيا بسبب غالبية طارئة، ومن إقصاء واستبعاد قوى وتيارات وطنية وديمقراطية عدة في المجتمع بسبب الخلاف السياسي معها، أو حتى بسبب الخصومة الشخصية، لأننا هنا لا نتحدث عن صوغ تعديل في قانون، يمكن لنا غدا إعادة تعديله أو حتى شطبه، لكننا نتحدث عن دستور يحكم الوطن، ويحتكم إليه كل المواطنين لسنوات أو عقود طويلة.

أما غير ذلك فإنه يفتح باب الشيطان، ليثير الاعتراض والامتعاض والرفض والتمرد بل إنه يعطي المبرر الكافي للتيارات الدينية لترويج أفكارها وتسويغ تمردها على الدولة والنظام، وخصوصا بعد أن استطاعت هذه التيارات أن تحفر لنفسها نفقا تحت الأرض وتبني طريقا فوق الأرض، تشغله بشكوى الناس من الأزمات الاقتصادية الاجتماعية، كما من الاحتقان السياسي، الذي لم ينجب سوى تحالف الفساد والاستبداد!

ولنا عودة بإذن الله...

خير الكلام

يقول الإمام الشافعي: «لقد خلقك الله حرا... فكن كما خلقك».

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1581 - الأربعاء 03 يناير 2007م الموافق 13 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً