العدد 2243 - الأحد 26 أكتوبر 2008م الموافق 25 شوال 1429هـ

«الأزمة المالية العالمية» هي أزمة سياسية!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

في الوقت الذي يتجه فيه البعض إلى إقصاء الجانب السياسي من إحداثيات «الأزمة المالية العالمية»، ويدعو إلى عدم إدخال السياسة في مثل هذا الشأن لكونها ستفسدها وتزيدها تأزيما، فإننا نجد آراء أخرى في المنظومة الغربية تعتبر هذه الأزمة التاريخية بكونها أزمة ذات جذر ومضمون سياسي أصيل قبل أن تكون أزمة اقتصادية ومالية بالتحديد، ومن بين أصحاب تلك الآراء يبرز المفكر السياسي الأميركي البارز بنيامين باربر والذي نشر مقالا في صحيفة «الغارديان» البريطانية قبل أسبوع تقريبا عنونه بـ «عقود من الثقة والديمقراطية المتآكلة تسببت بالمشكلة» معتبرا أن «جذور الأزمة المالية تكمن في العجز الديمقراطي، وإن إعادة إحياء الإيمان المواطني يعد ضرورة لاقتصاديات السوق لتعاود العمل».

وقد أكد باربر ومنذ تتبعه لأولى نذر الأزمة أن المعضلة الرئيسية لها لم تكن لتكمن في انعدام الثقة المالية والاقتصادية بشكل بحت، فحينما تقبع البنوك تحت ضغوط متزايدة ومهلكة، وتفشل صناديق التحوط، وتنهار الأسهم وغيرها من سمات إخفاق اقتصادية واضحة، فإن ذلك إنما يعود أساسا إلى أزمة غياب الثقة، أي هي أزمة غياب الثقة السياسية أساسا بين الدولة والمجتمع وبين المواطنين أنفسهم، والتي من المفترض أن تكون موجودة في ظل الأنظمة والمجتمعات الديمقراطية، والتي تعد معلما مهما من معالم «الرأسمال الاجتماعي»، وهي بالتالي تتضمن اعترافا وإقرارا بوجود أرضية مشتركة تحضن جميع المواطنين، كما أنها بحسب تعبير باربر تعد صمغا يلصق جميع المنتجين المتنافسين وزبائنهم حتى يمكنهم بالتالي تأدية أعمالهم بالطريقة المثلى.

ويرى باربر أنه وفي حين تتمكن غرائز المنافسة والأنانية من السوق، وتكون أدوات لحساباته، فإن السر الصغير و «القذر» هو أن السوق الرأسمالية لا تعمل إلا حينما يصبح بمقدورها أن تتغذي طفيليا من رأس المال الاجتماعي الديمقراطي النشط، وبالتالي فإن أية مبادرات للإصلاح المالي والمصرفي وللدعم الحكومي أو حتى عبر توجيه خطابات رئاسية ووزارية عليا متكلفة لن تجدي نفعا في حل هذه الأزمة طالما ظل العجز الديمقراطي والإثخان للرأسمال الاجتماعي وتضعضع الثقة السياسية العامة متواصلا.

كما أنه يشدد على أن سر مصطلح «اليد الخفية» الذي سبق أن نظر له رائد الرأسمالية المفكر آدم سميث لا يتجلى في كون تلك اليد هي إشارة إلى رأس المال الاقتصادي، بل إن اليد الخفية إنما هي تتمثل أصلا في رأس المال الاجتماعي، والأخير لا يمكن أن يقل في دوره عن الأسواق في تثبيت ثروة الأمم، ولعله يمكن في هذا الصدد الاطلاع على آراء المفكر الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيغليتيز التي تناولناها في مقالنا?، وعلاوة على ذلك يضيف باربر أن أزمة السيولة هي أزمة سياسية أصلا، كما أن العجز الائتماني هو محصلة لعجز ديمقراطي!

ولذلك فإن باربر يؤكد أنه لو وضعت الثقة ورأس المال الاجتماعي في الاعتبار فحينها ستتحقق تبادلات الرساميل الخاصة، وسيتم تنفيذ العقود وستحفظ التعهدات وتتحقق الوعود، فالديمقراطية بالنسبة له هي كالبحر المفتوح الذي تبحر فيه جميع سفن الأسواق المتنافسة ومعها بحارة المؤسسات المالية المتخاصمة.

لذا فإنه لا يمكن أن تتحمل وزر هذه الأزمة فقط الديون المعدمة، والمصرفيون الجشعون، ومديرو التحوط الحمقى، والمستثمرون المتجاهلون، ولكن تعود جذور الأزمة أساسا إلى نحو أربعة عقود من التحرك ضد عملية الدمقرطة وهو السبب الحقيقي والجذري لهذه الأزمة، وذلك حينما كان هنالك نزيف حاد أثخن الرأس مال الاجتماعي بعدما اعتبرت الحكومة في حد ذاتها مشكلة والسوق حلا لهذه المشكلة، على حد تعبيره، وهو ما تسببت به معايشة الرأسمالية الريغانية والثاتشرية التي عملت ضد الحكومة وربما ضد الديمقراطية والمواطنية ذاتها!

ويطرح باربر في النهاية عددا من الأسئلة الكبرى المنبهة إلى خطورة عدم تدارك العامل الجذري للأزمة وهو عامل أزمة الثقة السياسية، فيكتب «لماذا ينبغي الآن على العملاء أن يثقوا بالبنوك؟ أو لماذا ينبغي للبنوك أن تثق ببعضها بعضا؟ أو أن يثق المستثمرون بالسوق المالية؟ أو أن يثق أي فرد برئيس الوزراء أو الرئيس الأميركي ووزير خزانته وبالنواب وأعضاء الكونغرس الذين لا يثقون بقيادتهم؟» ويستطرد مختتما «إن العلاج اليوم لا يكمن فقط ببساطة في تقليص وتقييد صلاحيات البنوك، وإنما يتطلب إعادة إحياء الديمقراطية وإعادة خلق رأس المال الاجتماعي الذي ستتبعه الثقة، ففي حينها ستهدأ السوق وسيعود المقرضون للإقراض مجددا، والمستثمرون للاستثمار مرة أخرى، وسيشتري الزبائن البيوت، وحينما يخضع الاقتصاد الخاص للمصلحة العامة وسيكون بالإمكان إعادة تحقيق الرفاهية فيتم فرض الإيمان الوطني القوي والعدالة الديمقراطية».

ولأعترف بأن مقال باربر وأطروحته التي تشدد وتؤكد أن الأزمة المالية العالمية هي أزمة سياسية أصلا قد أعادني وذكرني بدراسة سبق للمفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما وان أعدها في العام 1999 وتمحورت حول موضوع «رأس المال الاجتماعي والمجتمع المدني»، وقد نشرت في موقع «صندوق النقد الدولي» واستهلت بالتأكيد على أهمية رأس المال الاجتماعي بالنسبة للفاعلية الوظيفية للاقتصاديات الحديثة، وهو الذي يعد «عنصرا رئيسيا في الديمقراطية الليبرالية المستقرة، ويصوغ المكون الثقافي للمجتمعات الحديثة التي انتظمت منذ عصر التنوير على قاعدة قوامها المؤسسات وحكم القانون والعقلانية».

وانطلق فوكوياما في بحثه إلى اعتبار أن مصطلح الرأسمال الاجتماعي يعد تجسيدا لقاعدة ونموذج ضمني يحفز على التعاون بين اثنين أو أكثر من الأفراد، وهو بالتالي من الممكن أن يتدرج من حالة لتبادل الامتيازات بين صديقين إلى حالات لعهود ومبادئ متسعة ومعقدة كـ «المسيحية» و «الكونفوشيوسية» وغيرهما، ونظرا لكون الرأسمال الاجتماعي يؤكد ضمنيا التعاون بين الجميع، فإن الثقة والشبكات الاجتماعية والمجتمع المدني تعد في النهاية أمثلة لظواهر مصاحبة ونتائج لـ «الرأسمال الاجتماعي» وليست مكونة له، في حين يحتسب «رأس المال الاجتماعي» ضمن إطار وظيفي اقتصادي على اعتبار أنه حاصل لطرح أكلاف العمليات الاقتصادية المتصاحبة مع آليات تنسيق رسمية مثل العقود والإجراءات البيروقراطية والمراتب الهرمية السلطوية.

وهو يجد أن أفضل طريقة لمقاربة أبعاد «الرأسمال الاجتماعي» تتمثل في اعتماد مفهوم «شعاع الثقة - Radius of Trust» بحيث تتوافر الثقة العامة بين جميع الجماعات التي تجسد رأس مال اجتماعي، وهنالك قابلية إيجابية لأن يمتد رأس المال الاجتماعي بينهم ليتعدى حجم الجماعة ذاتها كما أن هنالك قابلية أخرى لينحصر ما دون هذه الجماعة، وبالتالي يعد المجتمع الحديث هو عبارة عن سلسلة متداخلة ومتضافرة من «شعاعات الثقة» تلك التي تتراتب اجتماعيا ما بين الأصدقاء، فالمنظمات غير الربحية، فالجماعات الدينية وغيرها.

وينبه فوكوياما في مبحثه إلى أن أدبيات التنمية اعتمدت بشكل عام على تصنيف «رأس المال الاجتماعي» ضمن خانة الخصوم «liability» بدلا من أن يكون ضمن الأصول «Asset» إذ لطالما اعتبر التحديث الاقتصادي متضادا مع الثقافة التقليدية والمنظمات الاجتماعية وهو بالتالي إما أن يمسحهم أو يقيد من قبلهم، فيتساءل مستنكرا حدوث ذلك في الوقت الذي يعتبر فيه الرأسمال الاجتماعي شكلا من أشكال رأس المال!

ويستشهد فوكوياما بما أورده كالمر جونسون حول كون الفرق ما بين السياسة الاقتصادية اليابانية والأميركية لا يستند إلى عوامل ثقافية، وإنما هو نتاج لحقيقة امتلاك اليابان لوزارة التجارة الدولية والصناعة MITI التي تعد إحدى أقوى المؤسسات الحكومية في اليابان، وإذا ما أرادت الولايات المتحدة الأميركية استنساخ التجربة ذاتها فإنها لا ينبغي عليها أن تضمن الحصول على النتائج ذاتها بالضرورة كما حصل مع اليابان، ومع ذلك فوكوياما يرى أن نجاح هذه المؤسسة في اليابان دون غيرها إنما يقدم شهادة لعدد من الخصائص الثقافية اليابانية المؤثرة في البناء التنظيمي والمؤسساتي ومنها ما يتعلق بـ «الاحترام البيروقراطي، والمستويات العليا من التدريب والاحترافية، والفرق العام ما بين تصور السلطة في المجتمعين الياباني والأميركي»، ويشدد فوكوياما ضمن السياق ذاته على أن ذلك قد يعني أن بعض المؤسسات لا يمكن أن تستنسخ وتنقل بنجاح إلى مجتمعات أخرى تفتقد إلى رأس المال الاجتماعي.

وختاما لما تناولناه في مقالنا من أطروحة المفكر السياسي الأميركي بنيامين باربر بشأن كون الأزمة المالية العالمية هي أزمة ذات جذور سياسية نتيجة لزعزعة الثقة وإثخان رأس المال الاجتماعي، وما تطرقنا إليه في سياق مماثل من مفهوم ورؤية المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما لمفهوم رأس المال الاجتماعي فإننا نطرح سؤالا جوهريا هو: «أليس من الممكن أن نرجع ذلك التذبذب المحلي المتوتر والغامض في المواقف الرسمية تجاه التعامل الصريح مع تداعيات الأزمة المالية العالمية المستوردة أيضا إلى أزمة غياب الثقة بين الدولة والمجتمع فـ «رأسمالنا الاجتماعي»، وإن وجد، فإنه ظل يعاني من إنهاك مرير وأنيميا منجلية حادة وهو ما تكشف عنه العديد من الأزمات؟!»

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2243 - الأحد 26 أكتوبر 2008م الموافق 25 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً