العدد 1613 - الأحد 04 فبراير 2007م الموافق 16 محرم 1428هـ

أخطر ما تتركه الفتن الطائفية

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

الفتنة وما تخلفه من جوع وخوف تدفع الإنسان قسرا إلى أمور أغرب من الخيال، والتاريخ يحدثنا عما حدث أثناء ثورة الزنج (في القرن الثالث الهجري) التي انفجرت في البصرة وسيطرت على مناطق شاسعة من البحرين القديمة (تمتد من شمال البصرة إلى جنوب عمان ومن غرب اليمامة إلى ساحل الخليج شرقا فهي كانت تضم الكويت والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وقطر إلى جانب جزر البحرين في الوقت الراهن)، وكانت قد هزمت الجيش العباسي في الكثير من المواقع في صراع دموي استمر أكثر من عشرين عاما.

وكما هو معروف فقد بدأت الثورة سنة 249 هـ (863م)وظلت قائمة تقاوم حتى أول صفر سنة 270 هـ (884م) وانتهى هذا الصراع بمقتل أكثر من نصف مليون نسمة. والزنوج كانوا عبيدا سودا جُلبوا من إفريقيا الشرقية للعمل في استصلاح أراضي كبار القوم، وكانوا يعاملون معاملة وحشية «ويحيون حياة سيئة ولا يتقاضون أجورا يومية ولا يتجاوز قوتهم اليومي قليلا من الطحين والتمر والسَّويق»، هذا الظلم دفعهم للتجاوب مع أحدهم ممن نسب نفسه للعلويين وقاد الثورة. وقد خلّفت النزاعات بين الثائرين وجيش الخلافة العباسية مصائب حلّت على الناس، وانتشرت المجاعة في بعض المناطق حتى اختفت القطط والكلاب من شوارعها، واستحكم فيها الرعب، بل وصل الأمر إلى حد أن يأكل الناس جيف الأموات من البشر.

ينقل أحد الخطباء مما يحكى أن رجلا زار إحدى المناطق المنكوبة، فوجد امرأة تبكي وبين يديها رأس امرأة أخرى بلا جسد، فسألها: لمن هذا الرأس؟ فأجابت بأنه رأس أختها، فظن أن بكاءها يرجع لمقتل أختها، فلما سألها عن الحكاية، أجابت بأنه حين كانت أختها على وشك الموت، تجمع الجيران حولها، ينتظرون وفاتها، ولمّا توفيت قطّعوا أعضاءها وتقاسموها من أجل سدّ ما نزل بهم من مجاعة، ولم يتركوا لها سوى الرأس؛ فهي إذا تندب حظها فيما تركوه لها من حصة.

طبيعي أن من يسمع مثل هذه الحكايات يشعر بالتقزز ولا يتخيّل ذلك، ولكن حين يصل الإنسان لدرجة من الجوع حد الهلاك، ويتواكب مع ذلك خوف شديد ورعب يجعل القلوب تبلغ الحناجر، يمكن أن يتحول الإنسان إلى شيء آخر.

وإذا كانت هذه المظاهر تنتهي بانتهاء الأزمات كونها تتعلق بأمور ملموسة ويمكن الإحساس بتغيرها، كالجوع الذي ينتهي بالشبع أو انقلاب حال الخوف إلى أمن، فإن هناك من الفتن ما يترك آثاره على الفكر بشكل شبه مستدام وهذا النوع هو الأشد خطرا.

من الممكن أن تحدث كارثة تأتي على حضارة البلد وعمرانها وتحيلها إلى لا شيء، ويمكن أن تحدث حرب بين بلدين أو أكثر تترك دمارا هائلا كما حدث نتيجة الحرب العالمية الثانية، غير أنه من الممكن إعادة البناء بأفضل مما كان، وذلك لأن الإنسان مازال محتفظا بأفكاره السابقة وعلمه، ولكن لو فقد الإنسان أفكاره السابقة، فلن يستطيع إعادة البناء السابق. بالمثل ما يتعلق بالعلاقات بين المذاهب والطوائف الدينية، فإن الحوادث التي تثيرها الفتن بينهم، من الممكن أن تعيد صوغ أفكار ظلامية تبقى آثارها لأجيال قادمة، وذلك بعد أن تنمحي على إثر الفتن الأفكار النظيفة السابقة.

فالمصيبة التي تتركها الفتن الطائفية لا تكمن في عدد القتلى وكثرة الجرحى وما يخلفه الاقتتال من أيتام وأرامل وثكلى، فحتى لو قتل نصف الشعب فإن كل ذلك يهون أمام المصيبة الكبرى التي تخلفها الفتن.

الزلازل التي تضرب بعض البلدان وتترك خلفها مئات الآلاف من القتلى والجرحى وتحيل العمران لدمار هائل، يذهب تأثيرها النفسي وينتهي الانطباع الفكري مع زوالها أو انقراض الجيل الذي عايش لحظاتها المروعة، ولكن بضع مئات يقتلون في حوادث طائفية تجعل الأمر يختلف تماما، وخصوصا أنه أثناء الفتن التي تقود إلى الاقتتال بالذات بين طائفتين مختلفتين، تُُمسخ الفطرة، ويصبح الإنسان مخلوقا مختلفا، فيُقبِل على ممارسة أفعال يترفع الحيوان الوحشي عن اقترافها، ويبحث له عن مسوغات ومبررات ويتشبث بأناس جهلة يسبغون على أفعاله الشرعية الدينية ليقوم بكل تلك الممارسات التي تتسم بالقسوة الشديدة والتي تحرمها الشرائع السماوية أشد التحريم، وما يحدث في العراق شاهد حي أمامنا.

الخطورة الشديدة أنه ما إن تنتهي الفتنة حتى تكون المبادئ والقيم قد تغيّرت وتبدلت وتنكرت لماضيها، هذا إلى جانب بقاء أفكار خطيرة ذات صبغة دينية بين مختلف الأطراف المتنازعة، وهذا أخطر ما تتركه الفتن الطائفية ذات الصبغة الدينية.

والمشكلة التي تعاني منها الأجيال اللاحقة لا تكمن في الحوادث وتفاصيلها، بل في الأحكام التي أصدرتها قيادات تلك الحقبة من التاريخ ضد الطرف الآخر من تكفيره واستحلال دمه، إذ عادة ما يتحول الصراع السياسي في بعض المجتمعات إلى صراع يوّظف فيه الدين من أجل حشد أكبر عدد من الأنصار وبث الحماسة في الصفوف، ليصبح الصراع على الدنيا والكرسي صراعا ذا بعد مقدّس، يدخل النار من يفرّ من فتنته. ولو تفجّرت فتنة مذهبية حاليا - لا سمح الله - فإن أحكاما كثيرة ستصدر، وستبقى هذه الأحكام والفتاوى مصدرا في المستقبل يتم من خلالها التعاطي مع الأطراف الأخرى، وبالتالي نظل في دوامة محاولات الخروج من هذه الشرنقة فلا نستطيع.

حاليا وفي ظل فتنة طائفية مذهبية تطل برأسها المشئوم، يتم استدعاء بعض صفحات الماضي السوداء التي لا يخلو طرف من امتلاك كمٍ كبير منها، ويُعاد بث فتاوى وأحكام أصدرها بعض علماء الماضي السحيق ضد أطراف إسلامية أخرى مع أنها أحكام وفتاوى - بغض النظر عن تقييمها - أُطلقت وفقا لظروف زمانهم ومعاصريهم من الطرف المقابل. وبمجرد استدعاء بعض الصور السلبية من الماضي تمتلئ القلوب غيظا وحقدا، ولهذا عرف بعض أصحاب المآرب الخبيثة من أين تُؤكل الكتف فصاروا ينفخون في بوق الصفوية، ولكنهم تغاضوا عن سلبيات العثمانية والأموية والعباسية، وقريبا قد نسمع بالقرمطية (نسبة إلى القرامطة)، أي توظيف كل ما يصب الزيت على نار الفتنة الطائفية.

ولو استمرت أوروبا متشبثة بهذا النمط من التفكير ومقيدة بحوادث الماضي، لما نهضت من كبواتها الثقيلة، فهي التي خاضت مع نفسها حربين عالميتين، وحروبا كثيرة على أسس دينية، وإذا كانت دولة سنية تحولت في الماضي إلى شيعية، أو شيعية تحولت إلى سنية، فإن بريطانيا العظمى الكاثوليكية تحولت إلى بروتستانتية لمجرد «حادث غرام خاص في حياة ملك انجلترا، هنري، فأدى ذلك الحادث إلى انفصال العائلة المالكة وبالتالي انجلترا كلها عن المذهب الكاثوليكي» (المصدر، اقتصادنا).

وإذا لم يجعل المسلمون حوادث الماضي عظة، واستمروا يلوكونه ويجترون الجزء البالي من التراث الذي كان نتاج ظروف عصره، فإنهم في طريقهم إلى تكرار الفشل وتجرّع مرارة التجربة مرة بعد أخرى. وبذلك فإن هذا الماضي الذي لا علاقة له بالعقائد والثوابت الدينية، سيرمي بهم في حلقته، يدورون عاجزين عن مجاراة الحاضر، فضلا عن المستقبل.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1613 - الأحد 04 فبراير 2007م الموافق 16 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً