العدد 1615 - الثلثاء 06 فبراير 2007م الموافق 18 محرم 1428هـ

إيران في صدارة «الحرب الباردة الثانية»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تحتل إيران موقع الصدارة في «الحرب الباردة الثانية» التي أخذت ترتسم معالم خريطتها السياسية في الأفق الدولي. وهذه الصدارة تعود إلى مجموعة عوامل منها موقعها الاستراتيجي الفاصل بين دول الخليج العربية وروسيا الاتحادية التي تطمح لأن يكون لها موقعها الخاص في «المياه الدافئة». وإيران في هذا المعنى الجغرافي هي الرابط والفاصل (البرزخ) بين طموحات قوة دولية كبرى ومصالح قوى دولية بسطت نفوذها في المنطقة منذ عقود. وإيران أيضا تقع على خط «طريق الحرير» الذي يربط ويفصل بين الشرق (آسيا) والغرب (أوروبا). كذلك فهي تقع على شاطئ بحر قزوين (الغني بالنفط) وتتقاسم النفوذ مع خمس دول آسيوية ذاك الجرف القاري.

هذا الموقع الجغرافي الاستراتيجي أعطى حيوية للدور الإيراني الذي تعزز مع الثورة الإسلامية بسبب نمو قوة ايديولوجية طورت الدولة باتجاه المزيد من التماسك الداخلي وساهمت في تكوين ثقافة خاصة تعتمد على مجتمع له تاريخ حضاري وتجربة في التصنيع والإبداع الفني والفكري.

كل هذه الخصائص الجغرافية والبشرية والعقائدية جعلت من الدولة قوة قادرة على تحريك المجتمع وتطويره وتعزيز طموحاته وغاياته. ولهذه الاعتبارات الموروثة أو المستحدثة تشكلت في إيران سياسة مستقلة جعلتها قادرة على التكيف من جهة أو الممانعة من جهة أخرى. ونجحت طهران خلال العقود الثلاثة الماضية أن تعيد بناء مشروعها وإعادة صوغ قواعده وأهدافه بتقنية معقولة على رغم الحروب ومحاولات الزعزعة من الداخل أو الحصار من الخارج. وبعد مكابدة طويلة وصلت إيران الآن إلى ما وصلت إليه. وهذا النمو دفع الكثير من القوى الكبرى إلى الاعتراف بالأمر الواقع والتعامل مع إيران بصفتها «قوة إقليمية صاعدة».

كل هذه العناصر الموضوعية والذاتية اجتمعت مع بعضها لتضع إيران في مركز الصراع الدولي وفي لحظة انعطافية تمر بها بدايات تشكل حدود «الحرب الباردة الثانية». فهذه الدولة ستكون في الفترة المقبلة ساحة صراع أو على الأقل المسرح السياسي الذي ستحاول الدول الكبرى اختبار قوتها وقدراتها وأدوارها عليه. ولذلك يمكن اعتبار معركة إيران هي الأولى في لحظة تدشين فعالية «الحرب الباردة الثانية». وهذه المعركة في عناصرها التكوينية تختلف في غاياتها عن تلك المعارك التي شهدتها أوروبا الشرقية في التسعينات أو ذاك الهجوم الذي تعرض له العراق في حرب الخليج الثانية في العام 1991.

معارك تسعينات القرن الماضي (تفكيك أوروبا الشرقية، تحطيم يوغسلافيا، وعزل العراق ومحاصرته) كانت نتاج انهيار منظومة علاقات وتوازنات «الحرب الباردة الأولى». فهذه الحروب يمكن اعتبارها هزات ارتدادية لذاك الزلزال الكبير (انهيار الاتحاد السوفياتي) أو ملاحق صغرى لتداعيات كبرى نجمت عن سقوط الثنائية الدولية.

حتى حرب أفغانستان (2001) والحرب على العراق (2003) وما أعقبتهما من هزات وضربات واعتداءات في فلسطين ولبنان والصومال والسودان تعتبر كلها عناوين صغيرة في سياق تحولات دولية انفردت الولايات المتحدة في تقريرها بصفتها القوة الأولى وأحيانا الوحيدة القادرة على اتخاذ مبادرات واختبار مدى قوتها العسكرية وفعاليتها الكونية.

الآن اختلف الوضع ولم تعد أميركا وحدها في الساحة الدولية. فخلال الفترة الماضية التي امتدت من تسعينات القرن الماضي إلى العام الجاري تشكلت في الأفق الدولي معالم خريطة جديدة أخذت ترتسم على ضفافها السياسية حدود «الحرب الباردة الثانية». فالعلاقات الدولية التي انتقلت من الثنائية إلى الأحادية بدأت الآن تنتقل من الأحادية إلى الثنائية والثلاثية وربما الرباعية. وهذه التعددية الدولية تشكل بداية تحول في منظومة العلاقات وهي ستفرض حضورها السياسي في موضوع إيران.

معركة إيران تعتبر في هذا السياق الدولي الجديد الحرب الاختبارية الأولى لفحص مدى استعداد الدول الكبرى على لعب دورها في تشكيل منظومة علاقات تقوم على فلسفة التعددية أو على الأقل العودة إلى النظام الثنائي أو الثلاثي في تقاسم الأدوار والوظائف والمواقع.

معركة كبرى

هذه المعركة الدبلوماسية الكبرى ليست بعيدة زمنيا ويرجح أن نشهد فصولها الأولى في القريب العاجل وتحديدا حين تبدأ دول مجلس الأمن في مراجعة الملف النووي الإيراني ومناقشة فعالية القرار الدولي 1737 ومدى استجابة طهران مع تنفيذ بنوده وكيف يمكن تطويرها أو تقليصها.

المسألة لن تكون سهلة كما هو متوقع. لأن المعركة ليست إيرانية بالكامل وإنما هي مجموعة عناصر تتداخل فيها المصالح الدولية بالطموحات الإقليمية وبإعادة رسم خريطة «الشرق الأوسط» وصلة هذه المساحة الجغرافية المهمة استراتيجيا بمعالم «الحرب الباردة الثانية».

الملف النووي سيكون عنوان المعركة، أما أوراق الملف ستتألف من عناوين كثيرة. فالدول الكبرى تعلم أن إيران لا تشكل هذا الخطر النووي المزعوم، وهي غير قادرة الآن على إنتاج ذاك السلاح. وحتى لو نجحت أو أسرعت في تصنيعه فإنها غير مؤهلة على استخدامه للكثير من الاعتبارات السياسية والايديولوجية والوجودية.

حقل المعركة إذا سيرفع شعار «النووي» إلا أن أدوات الحرب الدبلوماسية ستكون لأهداف أخرى تتجاوز حدود إيران الجغرافية والسياسية. فالمعركة دولية وهي تشكل الاختبار الأول في منظومة جديدة لعلاقات «الحرب الباردة» وحدودها السياسية ومناطقها الجغرافية.

المعركة زمنيا بدأت منذ نحو الشهرين وانتهت بصوغ قرار دولي توافقت الدول الكبرى على صدوره بالإجماع تحت الفصل السابع. لغة القرار مرنة دبلوماسيا ولكنها تشمل مجموعة فقرات ملتبسة يمكن تأويلها وتفسيرها على أكثر من وجه. كذلك يتضمن القرار مجموعة نقاط تخلط النووي بالصاروخي والتصنيعي بالبحثي. وهذا سيزيد من حدة المعركة الدبلوماسية وسيشجع الأطراف على استخدام قوتها السياسية لتعديل الفقرات باتجاه التصعيد أو التخفيض.

الصين مثلا نصحت طهران بقراءة فقرات القرار جيدا وشجعتها على الالتزام به ولكنها أيضا أكدت رفضها ممارسة الضغوط أو استخدام النصوص قاعدة سياسية للهجوم العسكري أو فرض عقوبات إضافية. وروسيا أيضا ذهبت في الاتجاه نفسه، بينما فرنسا ترددت وأعطت إشارات ضوئية متعارضة بين خط لندن - واشنطن وخط موسكو - بكين.

الموقف الأميركي خبيث والأكثر غموضا. فواشنطن ميدانيا تحشد القوات البحرية والبرية وترفع موازنة الدفاع والحرب على العراق وأفغانستان، وتقول كلاميا إنها لا تريد الحرب وتفضل الحل الدبلوماسي وهي تكتفي الآن بمحاربة النفوذ الإيراني في العراق وحماية الأصدقاء والحلفاء من مخاطر طهران.

حتى الآن لم تصرح إدارة واشنطن بأنها تخطط للحرب. فالرئيس الأميركي لم يذكر ذلك ولكنه لم يستبعد هذا الخيار نهائيا. كذلك لم يؤكد نائب الرئيس هذا الأمر ولكنه لم يسقطه من حساباته. والكلام نفسه كررته وزيرة الخارجية ووزير الدفاع. فالكل يؤكد أن خيار الحرب على إيران غير مطروح. وهذا في المعنى السياسي أن قرار الحرب لم يتخذ فعلا. ففي الحال العراقية حصل بين الرئيس ونائبه ووزير الدفاع ومستشارة الأمن القومي وإلى حد ما وزير الخارجية آنذاك (كولن باول) ما يشبه الإجماع على قرار الحرب. أما في الحال الإيرانية أجمع الرئيس ونائبه ووزيرا الدفاع والخارجية على عدم وجود قرار بالحرب. وهذا الاختلاف بين الحالين يشير إلى أن الإدارة الأميركية لم تتخذ فعلا القرار النهائي بعد، ولكنها تتحرك ميدانيا وكأن الحرب ستقع وهي تحتاج إلى شروط وذرائع وغطاء للإعلان عنها والبدء في تنفيذها.

الكرة إذا في الملعب الإيراني، وطهران تستطيع أن تمنعها في حال درست الحسابات وراجعت المعادلات وأسست علاقات تأخذ في الاعتبار ذاك التحول في المنعطفات الدولية وبدء تشكل تعددية أو ثنائية أو ثلاثية في منظومة «الحرب الباردة الثانية». وإيران في هذا السياق تعتبر نقطة اختبار لمدى فعالية تلك المنظومة الدولية الجديدة. وموقعها يلعب الآن دور المركز في ترجيح كفة التوازن بين القوى الدولية.

الصين طلبت من طهران التجاوب مع القرار 1737 ورفضت تصعيد العقوبات. كذلك أبدت روسيا استعدادها للتعاون على شرط الالتزام بالسقف الدولي للقرار. وفرنسا على رغم ترددها لم تكن بعيدة عن الموقفين الصيني والروسي.

هناك ثلاث دول من أصل خمس مستعدة للتفاهم مع إيران، وهذا يعطي طهران مساحة واسعة للتحرك الدولي إذا نجحت في التعامل بإيجابية مع القرار 1737 واستطاعت أن تتكيف مع طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنظومة الدولية. فهل تأخذ طهران المبادرة أم سيتكرر معها السيناريو العراقي في لحظة يشهد العالم بداية تشكل ثنائيات دولية جديدة؟

الجواب غير واضح المعالم ولكن المؤكد أن إيران باتت تحتل الآن موقع الصدارة في برنامج «الحرب الباردة الثانية» الذي أخذت مؤشراته السياسية ترتسم في الأفق الدولي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1615 - الثلثاء 06 فبراير 2007م الموافق 18 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً