العدد 1616 - الأربعاء 07 فبراير 2007م الموافق 19 محرم 1428هـ

الخطاب الطائفي في المجتمع العربي

شكَّلت هزيمة العام 1967 التي عرفت بالنكسة خلال الصراع العربي الإسرائيلي، انجراحا عميقا للهوية العربية، تركت على الذات المجتمعيّة ندوبا عميقة، ساهم في تعميقها وتكريسها توالي الحوادث بعدها وازدياد النكبات. وفي ظل المناخ العالمي الذي ساد عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وتحوّل العالم نحو القطب الواحد إلى الوقوع التام في قبضة المحافظين الجدد، تراجعت آفاق التحرر في بعض الأقطار العربية في ظلّ أنظمة مترهلة قامعة تتوافر فيها شتى صنوف الفساد لاسيما الاقتصادي منه، الأمر الذي جعل هذه الدول عارية عن التنمية، وجعل من سكانها شعوبا فقيرة لا تجد لقمة العيش على رغم الموارد الطبيعية والسياحية التي تتمتع بها.

هذه الضغوط جميعا التي عانت منها تلك المجتمعات، علاوة على انحسار الأمل بالإصلاح الداخلي جعلها مرتَعا خصبا لتكاثر الأفكار الدوغماتية المتطرفة، ومسرحا لتنامي الخطاب الطائفي العنصري، فاندفعت الذات المجتمعية العربية منها والإسلامية، إلى استنفار مخزون التراث «الخالد» والبحث في دفاتر التاريخ عن «الفردوس الضائع» و «الأندلس المفقودة»، وازداد تمسك هذه القوى بما تعتبره صورة مشرقة تاريخية تجابه بها حاضِرا مأزوما مهزوما.

وقد استفادت السياسية الأميركية من هذا الواقع السيئ استفادة عظيمة، إن لم نقل إنها عملت على صياغته، فشعوب المنطقة تكره الأنظمة القامعة الداخلية من جهة، كما تكره السيطرة الخارجية المتمثّلة في سياسيات الإدارة الأميركية من جهة أخرى، فعمدت تلك الإدارة إلى جعل «الإسلام» عدوا أيديولوجيا من خلال استغلال الخطابات المؤدلجة للقوى المجتمعيّة «الإسلامية» وتسخير الخطابات المتطرفة الصادرة عنها لتبرر السيطرة المُحْكَمة على دول المنطقة، وسببا لإعلان الحروب ونصب محور الشرور، وتوزيع لقب «الإرهاب» هنا وهناك، من خلال حشد قوى مرتبطة بها لحماية مصالحها الاقتصادية والنفطية، فعملت السياسة الأميركية على تكريس الهيمنة لتصل إلى حدّ التلاعب بكل القوى السياسيّة الحاكمة في المنطقة وبعض القوى المعارضة لها في آن معا، الأمر الذي شكّل أسبابا لنمو حركات العنف والتطرف، وأجج نار الصراعات المذهبية داخل هذه المجتمعات العربية حتى وجدت تلك الشعوب نفسها على حدود حربٍ أهلية لا تبقي ولا تذر من العراق إلى أفغانستان مرورا بلبنان وفلسطين وصولا إلى الصومال والسودان والقرن الإفريقي...

الطائفية أزمة هوية:

هناك ظروف وعوامل أدّت إذا إلى نمو الخطاب الطائفي وانتشاره، بعض هذه العوامل داخلية وبعضها خارجي، غير أن الأكيد أن هذه الطائفية تولّدت في تجلياتها الأولى من أزمة هويّة، كما أن الأكيد أيضا، أنّها تُمارس فعلا تفتيتيا مدمِّرا لكلّ ما هو بَنَّاء، فتفتت الأوطان إلى مجموعات أثنية وعرقية ومذهبية، ثم تعمد إلى تفتيت هذه المجموعات إلى أحزاب، ثم تتحول الأحزاب إلى تيارات، حتى تصل إلى تفتيت الأسرة الواحدة، وأخيرا تعمد إلى شطر الكائن الإنساني نفسه، فتشطر الإنسان إلى قوى متقاتلة منتجة للسيطرة والعنف وشتّى أنواع التمييز في علاقة يهيمن بها القوي على الضعيف هيمنة مطلقة، فيُمارس العنف حتى على الأطفال والنساء والمعوقين والقُصَّر، تحت شعارات «التربية» و «القوامة» و «الولاية»...

في الخطاب الطائفي تتضخم الأنا العنصريّة، وتتعاظم الفوقية، تعويضا عن الهزيمة والتبعيّة والهوان والشعور بالنقص والعجز، وهنا يكون دور «الدين» و «العقيدة» والدوغما قويا جدا، فتتحدد هويّة الإنسان على أساس «الدين» والأيديولوجيا، إذ يتم توظيف الخطاب الديني اللاهوتي في اضطهاد «الآخر»، وسحقه واستباحة دمه، وتصبح «الأنا» إلهية مقدسة خالدة لا يجوز مسها، ويتم إضفاء الصفة «الإلوهيّة» على الشعارات فيلبس الزعماء رداء «القديسين» و «الأولياء» و «الصالحين»، وتصبح انتقاض الزعيم الكريم هو انتقاض «الأنا المجتمعية» لتلك المجموعة البشرية وهو انتقاض «للإلوهية»، وتصبح مقاومة العنف تعدٍّ على مبدأ «القوامة» الذي هو مبدأ «رباني»، وتصور عملية المطالبة بالحقوق الإنسانية أنّه تَعدٍّ على الأمن والنظام.

ويتم لأجل ذلك توظيف كل النصوص الدينية والرموز اللاهوتية لتكريس الطائفية، وذلك عبر طبقة من الساسة والمثقفين والاكليروس ورجال الدين التي تمنح نفسها الحق الحصري لتأويل النصوص وتفسيرها بما يتلاءم مع الخطاب الانقسامي وتقع المجتمعات في قبضة مجموعة يدعي أصحابها حقوقا ميتافيزيقية الأمر الذي يوقع البلاد في الثيوقراطية التي هي أشد من الدكتاتورية لأن الخلاف معها يعني الإلحاد ويستوجب إباحة دم الآخر.

إن وصف الظروف والعوامل التي أدّت إلى ظهور الخطاب الطائفي وتحليلها لا يريد أن يجنح بحال من الأحوال إلى «تبرير الطائفية» بل هومن باب تفسير الظاهرة ليس إلا، وعملية الخروج من هذا الخطاب لا يكون إلا عبر تبني خطاب نهضوي إصلاحي ريادي، يتبنى التنوع والإبداع والمشاركة ويعتمد على البني الجوهرية لإنجازات العقل الإنساني في كل مجالات الفكر والعلم والمعرفة.

* كاتبة لبنانية

العدد 1616 - الأربعاء 07 فبراير 2007م الموافق 19 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً