العدد 1636 - الثلثاء 27 فبراير 2007م الموافق 09 صفر 1428هـ

ما بعد تحالف السلطة والمال والإعلام

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

من المستحيل تصور قيام نظام ديمقراطي حقيقي، في بلادنا أو في أي بلد في العالم، إلا على أسس واضحة من المشاركة والحرية والشفافية وحكم القانون...

وبغير هذه الأسس يسود تحالف الفساد والاستبداد، ونظن أنه سائد في أنحاء كثيرة ودول متعددة، تحتل بلادنا السعيدة مرتبة متقدمة في إطاره إذ صنفها أحدث تقرير دولي عن حال الحريات في دول العالم، صادر عن بيت الحرية الأميركي، ضمن الدول التي لا تعرف الديمقراطية ولا تعترف بالحريات!.

وعلى رغم تحفظنا على المعايير التي يعتمدها هذا التقرير، ويعتمدها عادة بيت الحرية هذا تحديدا، فإن حقائق مانعيشه ونعرفه عن أحوالنا، وخصوصا في ظل التردد الواضح في إجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية، تعطينا المؤشرات الأهم عن سيادة مفاهيم الفساد والاستبداد المتحالفة للقبض على مصائر الوطن بكل شراسة!.

ولعل أهم هذه المؤشرات تكمن في صعود قوة رأس المال واختراقها لمفاصل السلطة بكل أجهزتها السياسية والبيروقراطية، وصولا لتحالف ثلاثي بعد أن اخترقنا معا الإعلام بما يعنيه من قدرات على التأثير... ومن دون محاسبة أو شفافية...

وبداية نقرر أن نظم الحكم في الدول الغربية الديمقراطية، قامت خلال مسيرة تقدمها على قوة رأس المال، وأن أصحاب رؤوس الأموال شكلوا باستمرار آلات رفع جبارة لبناء الاقتصاد القومي، وبالتالي شكلوا عناصر تأثير كبيرة في صوغ السياسيات العامة وفي اتخاذ القرارات، باعتبارهم جماعات مصالح يعملون على تحقيق مصالحهم والتعبير عن سياساتهم، سواء باستغلال الإعلام وتأثيره المباشر على الناس، أو باستغلال نفوذهم وتأثيرهم المباشر على دوائر صناعة القرارات وصوغ السياسات...

لكن مقابل ذلك فإن هذه النظم وقد اتخذت الديمقراطية أسلوبا للحكم، خضعت للرقابة والمحاسبة والمساءلة وقواعد الشفافية، عن طريق البرلمانات المنتخبة بحرية ونزاهة، وعن طريق الصحافة والإعلام الحر المستقل، وعن طريق الرأي العام المستنير والواعي، القادر على محاسبة المسئول بل وعلى إسقاطه بالتصويت ضده في الانتخابات، ومن قبلها في استطلاعات الرأي.

هنا تكمن حكمة أن الديمقراطية قادرة على تصحيح أخطائها، وفق آليات وأساليب محددة ومعروفة هناك، أما هنا فالأمر مختلف!.

الأمر مختلف لدينا لأننا ببساطة لم نصل الى مرحلة الاقتناع بالفكر الديمقراطي وممارسة أساليبه، بعد أن غرقنا لقرون طويلة في بئر التخلف والاستبداد المتوارث، وبعد أن قاطعنا التواصل مع ذلك الجزء الآخر من العالم الذي أبدع الديمقراطية ومارسها، وبعد أن استقر الميراث الاستبدادي على مقولات كاذبة، بأن ديننا وحضارتنا وثقافتنا تعادي الديمقراطية لأنها من إنتاج الغرب المعادي!

والدليل أننا مازلنا حتى اليوم، وعلى رغم كل الحديث الصاخب عن الإصلاح الديمقراطي، نروح مكاننا من دون تقدم حقيقي، بل على العكس، نرى تحالف الفساد والاستبداد، هو الذي ينجح دائما في إجهاض كل خطوة إصلاحية قبل أن تكتمل!.

وتظن أن نموذج التحالف بين الاستبداد والفساد واختراقها للإعلام، هو النموذج الأكثر شيوعا في المنطقة العربية، خصوصا بعد تراكم الثروات واستنزاف مصادرها الطبيعية، مثل النفط، وبيعها للمستهلكين في الغرب والشرق، وتحول الاقتصاد الى اقتصاد ريعي بدلا من أن يصبح اقتصادا إنتاجيا، وبالتالي أصبحت قوة المال هي الحاكمة وقوة الإعلام هي المروجة، بعد أن أخذت نصيبها من المال، وقوة السلطة العليا هي التي تجتمع عندها وفي قبضتها المال والإعلام...

وفي مصر على سبيل المثال، تمكنت قوة المال من العودة سريعا الى التحالف مع قوة السلطة، بعد عقود قليلة من الانفصال بينهما بسبب ما جاءت به ثورة يوليو/ تموز 1952، من مبادئ وأفكار وسياسات كان هدفها إعادة توزيع الثروة القومية، لصالح الفقراء والمهمشين، وتقليص هيمنة أصحاب رؤوس الأموال على الحكم...

لكن الأمر لم يستمر طويلا، بعد أن عادت مصر الى سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف سبعينات القرن الماضي، وصولا لسياسات تشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي، بإصدار قوانين وقرارات تشجع وتسهل وتمنح مميزات بلا حدود، جنبا الى جنب مع فتح أبواب الاستيراد وظهور الوكالات التجارية للشركات الأجنبية، امتدادا لازدهار ما يسمى بالاقتصاد الأسود، الذي يضم تجارة المخدرات والسلاح والعملات والتهريب وتوظيف الأموال... هكذا اختلط الحابل بالنابل، اختلط المستثمر الحقيقي بالمهرب...

لكن نفوذ الجميع صعد الى أعلى، واختراق مؤسسات الدولة، مثلما اخترق الصحافة والإعلام، وبدأ تأثيره واضحا على صنع القرار وصوغ السياسات، اعتبارا من تسعينات القرن الماضي، واستطاعت قوة المال النافذة في دوائر السياسات، دفع ممثليها المرموقين، الى مناصب الوزراء، كما هو الحال مثلا في الحكومة الحالية برئاسة أحمد نظيف، ودفع نوابها الى البرلمان، عبر انتخابات العام 2000، ثم الانتخابات الأخيرة العام 2005، التي فاز فيها 77 من رجال الأعمال، بعضهم من الحيتان الكبيرة، والبعض الآخر من الأقل حجما!.

ولقد أدى نفوذهم القوي في الحكومة والبرلمان، ثم في الصحافة والإعلام، الى التأثير المباشر على توجيه السياسات وصوغ القوانين والتشريعات، التي تطلق اقتصاديات السوق وتفتح أبواب الاستيراد في ظل منافسة غير متكافئة، ما قضى على أمل تقدم الصناعات الوطنية، مثل الغزل والنسيج التقليدية، وحول الاتجاه من الاقتصاد الإنتاجي الى الاقتصاد الخدمي، من الصناعة الى السياحة، ومن الزراعة الى سمسرة العقارات، ومن التصدير الى الاستيراد بالوكالات التجارية، وفي الوقت نفسه أسرفت الحكومة والبرلمان في إصدار القوانين التي تخفف العبء عن رجال الأعمال، وتضاعفه على المستهلكين والفقراء، مثل قوانين تعديل الضرائب والجمارك والاستيراد والاستثمار... الخ.

والنتيجة، سقطت مقولة ثورة يوليو، بمنع سيطرة رأس المال على الحكم وهيمنة نصف في المئة على ثروات البلد، وعادت «ريما لعادتها القديمة» ربما بأشرس مما كان، فاتسعت مساحات الفقر وزادت البطالة وارتفعت الأسعار بصورة جنونية وتجمدت الأجور... وشاع الاحتقان الاجتماعي والسياسي على نحو ما نرى، بعد أن انقسم المجتمع!.

يقول تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر حديثا عن مؤسسة الأهرام، إن الآليات الرئيسية للإفقار والتهميش، تتمثل في عدم عدالة النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والسيطرة المتزايدة لرأس المال على الحكم في مصر، وجمود الحد الأدنى للأجور وفساد نظام الرواتب والأجور، وعدم اتساقه مع الزيادة الهائلة التي حدثت في الكلف المعيشية، ما جعل الملايين، حتى من العاملين في جهاز الدولة والقطاع الخاص، فقراء فعلا...

وأدت هذه السياسات والآليات، الى زيادة الفوارق الاقتصادية الاجتماعية، بين الطبقات والأفراد، ما زاد من تركز الثروة في أيدي القلة، مقابل زيادة مساحة الفقر عند القاعدة، التي أصبحت تضم معظم الطبقة الوسطى، فالأغنياء ازدادوا غنى والفقراء ازدادوا فقرا وبؤسا، إذ نسبة 10 في المئة هم الأكثر غنى يستحوذون على نحو 27 في المئة من الدخل القومي، في حين أن أفقر 10 في المئة من المواطنين لا يستحوذون إلا على 3.9 في المئة فقط!.

وهذا يعني ببساطة أن خللا اجتماعيا اقتصاديا خطيرا، يحدث في تركيبة الشعب المصري، يقوده ويستغله تحالف قوة المال وقدرات السلطة ونفوذ الإعلام، الأمر الذي ينعكس في اتجاهين متناقضين، اتجاه يطوع السياسات والقوانين لزيادة ثروات ونفوذ قلة من الأثرياء المتحكمين، واتجاه يدفع بملايين الفقراء الى التهميش والإحباط والاحتقان!.

وبينما يحدث هذا التناقض الفج يجري تعديل الدستور والقوانين، ليحق في الواقع مزيدا من مصالح الأثرياء الأقوياء، ولا يصون حقوق الفقراء، بل إنه لا يساعد في مد شبكة الأمان الاجتماعي فوق الملايين، التي صار كل همها البحث عن لقمة العيش، قبل الحديث عن الديمقراطية والإصلاح الدستوري...

في حين يجري الإعلام والصحافة في مصر نحو منزلق عميق، بعد أن اخترقهما تحالف المال والسلطة، وطوعهما لسياساته ومصالحه، فعلى سبيل المثال فإن الصحافة القومية الكبرى والإذاعة والتلفزيون، المؤثرين على 90 في المئة من الرأي العام، ملك للدولة، وتحت سيطرة السلطة الحاكمة بشكل مباشر، بينما بدأت القوة الحليفة، رأس المال، في الاستحواذ على نصيب من كعكة الإعلام والصحافة، لإكمال حلقة الهيمنة باسم تحرير الصحافة والإعلام من القبضة الحكومية!.

ومقابل محطات التلفزيون والإذاعة الحكومية، فإن أهم ثلاثة محطات خاصة، وهي دريم، والمحور، وأو. تي. في، ملك لكبار رجال الأعمال، وبالمثل أهم صحيفتين صدرتا في السنوات الأخيرة، «نهضة مصر»، و «المصري اليوم»، ولاشك في أن تنوع الملكية لوسائل الإعلام واستقلالية الصحف مطلوبة وإيجابية لصالح حرية الصحافة والرأي والتعبير، ولكن خضوع الصحف ووسائل الإعلام، خصوصا التلفزيون الأكثر تأثيرا، للهيمنة المنفردة سواء لقوة السلطة الحكومية، أو لقوة المال، خطر، ليس فقط على السياسة والاقتصاد الهادفين لبناء حكم رشيد، ولكنه خطر على فكرة الحرية بحد ذاتها، ومهدد لأي تقدم ديمقراطي... وهذا ما نحذر منه!.

لقد اخترع الإنسان الحكومات ونظم الحكم، لا لتمارس الاستباد، ولكن لتنظم حركة المجتمع وعلاقات طبقاته وأفراده، بالعدل والقانون، واختراع لها الديمقراطية لتمارس بها هذا التنظيم المجتمعي، واخترع الحريات والحقوق ليرتقي بها الإنسان، واخترع الفضيلة لتكون وسطا بين إفراط وتفريط!.

فأين نحن من كل ذلك...

خير الكلام: يقول المتنبي:

آلة العيش صحة وشباب

فإذا وليا عن المرء ولّى

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1636 - الثلثاء 27 فبراير 2007م الموافق 09 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً