«إن كان للإنسان مئة خروف، وضل واحد منها، أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضال؟ وإن اتفق أن يجده فالحق أقول لكم: إنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل» إنجيل متى (18، 13، 12).
(1)
سليل الصحراء مبدع يتأرجح بين اغترابين: اغتراب بسبب الهوية الصحراوية المغتربة عن نفسها كوطن، واغتراب بسبب الطبيعة الاغترابية للإبداع كرسالة، فالفضاء الميتافيزيقي الذي يروق للمعاجم أن تسميه «صحراء» ما هو الا الاغتراب في بعده المجسد على رغم محاولاتنا في ان نضع له حدودا جغرافيا للمكان. الصحراء ظِل مكان، ولم تكن يوما حقيقة لمكان. الصحراء وطن اللاوطن، ومكان اللامكان، لانها ميتافيزيقا المكان، والهوية الضائعة لمفهوم الأوطان.
الصحراء بعد مفقود ما ظل ناموسها الأول يحرّم المقام في المكان ولا يعترف بغير العبور دينيا. الصحراء لهذا السبب نكران للظاهرة في مقابل الوصية ما ظلت ترى الركون إلى المكان عبودية وفي الاستقرار خطيئة وفي المكانية عدوا. الصحراء إذا قررت أن تصير وطنا فلن تكون سوى وطن الرؤى السماوية (كما يصفها روبرت موزيل)، لانها كيان استعاري لانها بدل أن تقيم في الجسد لتغترب عن ملكوت الرب، تغترب عن الجسد لتستوطن عند الرب عملا بوصية القديس بولس. وهو ما يعني أن الصحراء ليست مساحة لممارسة الحرية، ولكنها الحرية مجسدة. والحرية اغتراب.
الصحراء لا تباع في رحلة اللامكان. واحة عندما تقرر أن تهب الخلاص، ولكنها تستنزل من بعدها المفقود نبوة فإذا حدث ووجد المبدع نفسه مغلولا بقدر الانتماء إلى هذه الاعجوبة فان المفارقة لابد أن تجعل منه طريدا. لا تجعل منه طريدا فحسب، ولكنها تجعل منه غريبا مجبولا بختم علامة قدرية لئلا يقتله كل من وجده مثله مثل الشقي قابيل. ذلك ان وصية البعد المفقود (المستعارة من هوية الصحراء كوطن لا يعترف بمنطق الوطن) تستوجب البحث عن وطن له وجود لا في المكان وحسب، ولكن في الزمان أيضا، لان المكان يصير وطنا، ولان الزمان ينقلب تاريخا إذا لم تهب على القرينين رياح الوصية، إذا لم يتسربلا بأنفاس الروح. هنا يبدأ مريد الإبداع رحلة اغترابه الثاني ليصير له هذا الاغتراب ميلادا ثانيا. يغدو الاغتراب مركبا، وينقلب المنفى قدرا، لان الإبداع طبيعة لا تتغذى من ينابيع الهوية الدنيوية، ولكن من ينابيع الهوية الضائعة، من ينابيع الهوية الاغترابية، من ينابيع الحرية. والجدل بين هذين القطبين الاغترابيين المجهولين بالفقد لابد أن يستعيد هوية المحال إذا لم يقطع عليهما الانتحار الطريق. لان الإبداع جار الأبدية الخالد. كما أن الاغتراب قوت يومه الخالد.
الصحراء في النهاية لم تخلق لتهب التجربة الدنيوية. الصحراء خلقت لتهب النبوة. والنبوة هي التي تبدع التجربة، لتنسج من خيوط التاريخ في الصحراء بحسب تعطل وظيفة الزمان، لان الصحراء أخيرا هي الوجود الدنيوي مغتربا. نحن لا نملك الحق في أن نقول: إن العالم جسد وما للصحراء الا روحها ما لم نعترف أن الأرض لا تستعيد روحها المفقودة، روحها الربوبية، لتصير كلها روحا، ما لم تستنزف حتى النهاية تلك الروح التي تتبدى لنا مجسدة في المياه لان الماء روح استقرت (أي اغتربت عن نفسها) بالتجسد. اما الروح فليست سوى الماء إذا تحرر (أي إذا اغترب عن نفسه) بالتبدد.
(2)
ما معنى أن يتقبل الرب قربان هابيل ويرفض قربان شقيقه قابيل؟ أليست هذه المحاباة عملا من قبيل الإكبار لرسالة المهاجر في مقابل إنكار البهتان الذي يتلبس صاحب الاستقرار؟ ألن يعني هذا أخيرا أن الهجرة مبدأ مجبول بالقداسة (من حيث هي حرية)، كما أن الاستقرار ما هو الا إثم من حيث هو عبودية؟
الواقع أن المتون المقدسة لا تكفي بأن تلقننا بهذه الأمثولة، ولكنها تمضي إلى ابعد عندما تحدثنا عن الكيفية التي عالج بها الرب خطيئة آدم. فقصاص النفي من الجنة لم يكن سوى استجابة للظمأ إلى الحرية وليس خشية من نيل الخلود بالانتقام من شجرة الحياة. اعني انه تلبية لحاجة دلل عليها التحريم بالأكل من شجرة التمييز بين الخير والشر. وهو تمرد تنعته الكتب المقدسة بالخطيئة الأولى فتتوعده مع صاحب هذا الخيار بداية بالبحث عن أكباش فداء في الحية وفي قرينتها بهدف تخفيف العبء عن آدم وإظهاره في الجريمة ضحية لا شريكا، ونهاية باللغة التي استنزلها على هذين الشريكين من دون آدم الذي اكتفى أن لعن الأرض بسببه من دون أن يلعن هو!
أفلن يكون هذا غفرانا مسبقا لصاحب الخطيئة؟ ألن يدلل هذا على ذلك الحب المستبطن الذي أخفاه صاحب الشأن إزاء خليله جزاء رهيبا، ولا احد يستطيع ان يقدر مدى خطورته سوى صاحب الشأن الذي لم يكن يوما سوى الحرية مجسدة في رمز؟
وجسامة خيار كالحرية رهين بأمر آخر جلل أيضا وهو: الخطيئة. أي أن الحرية عمل لابد أن يعبر جحيم الخطيئة برهانا يحقق القران مع مبدأ الحرية. ولكن التجربة لا تنال الاعتراف من دون قصاص. ولهذا كان المنفى الحيلة الوحيدة للتكفير عن الثورة لان المنفى جنس من الصلاة. والرب عندما دفع بصاحب الحرية إلى رحاب هذا المنفى لم ينتهِ من أمره، بل اقتفى مسيرته من خلال ذريته أيضا. وقد بارك حامل الوصية العابرة بقبول قربانه ليبرهن للأجيال على ضرورة اعتناق عقيدة الرحيل في مقابل عقيدة الاستقرار مطلقا اسم (أبناء الله) على هذه السلالة تمييزا لها من أهل الاستقرار (كما يرد في الإصحاح الثالث من سفر التكوين). وكان بإمكان هذا الانقسام بين الفريقين أن يستمر إلى الأبد ليحقق انقلابا في مسيرة الملة البشرية لو لم تقم قبيلة الاستقرار هذه بإغواء قبيلة الله المرتحلة بأجناس الحسان فاقترنوا أيضا ليصابوا بعدوى الركون إلى الأرض.
وعلى رغم هذا المصاب فإن الأخيار رفضوا العبودية ورحلوا ليبقوا على ايمانهم، ويبقوا على حريتهم، ويبقوا على حقيقتهم ليقينهم أن الارتجال اقدر سبيل لمحور الحدود بين السماء والأرض، بين الوجود والعدم، بين الحياة والموت، بين الفناء والخلود. وصاحب الشأن الذي حرّم آدم من فردوسه نصّبه على ارضه خليفة يوم جعل له من الرحيل دينا. يوم جعل له من الحرية وطنا بديلا. وقد تعمد ان يستنزله في البرية لييسر له العبور. هذه الحرية التي مهدها لتصير له حرما يمارس فيه صلاة الحرية. ولو لم يرَ في البرية هذه الحرية لما أمر المكابر فرعون أن يطلق شعبه ليعبده في البرية (سفر الخروج). وهو ما يعني أن فعل الحرية ما هو في حقيقة البدئية سوى ضرب من صلاة. تلك الصلاة التي لا تجوز الا بالسير في ركاب السيرورة المعبر عنها في المتن المقدس بـ «البرية».
ولهذا نرى الأوطان لا تنوح على أبنائها الذين سكنوا إليها، ولكنها تبكي لفراق ابنائها الذين اغتربوا. ربما لان الأوطان تدري ان الأبناء الذين خرجوا لم يغتربوا الا ليصيروا للأوطان فدية. والدليل ان الأوطان لا ينقذها أبناؤها الذين تشبثوا بصدرها، ولكن خلاصها يأتي عادة من خارجها على يد أبنائها الذين اغتربوا. فـ «أوديب» - الذي أخضعته أقدار صاحب الشأن لتجربة إثم عظيم ليصير بسببها مهاجرا عظيما - انقلب في سيرورة منفاه تميمة أبطلت الطلسم لتنقذ مدينة «طيبة» من كابوس التنين الذي جثم على صدرها؛ لأن الوصية تقول: إن من تحرر وحده يستطيع أن يُحرّر.
* مفكر وروائي ليبي
العدد 1672 - الأربعاء 04 أبريل 2007م الموافق 16 ربيع الاول 1428هـ