العدد 1685 - الثلثاء 17 أبريل 2007م الموافق 29 ربيع الاول 1428هـ

ثلاث ساحات مكشوفة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد أكثر من أربع سنوات على احتلال بلاد الرافدين انكشفت المنطقة العربية على ثلاث ساحات مفتوحة على احتمالات مختلفة لا يستبعد أن تشهد خلال الفترة المقبلة مجموعة «حروب صغيرة» لتعديل موازين القوى وترسيم حدود الطوائف والمذاهب والقبائل فيها. والساحات الثلاث هي: العراق، لبنان والصومال.

الساحة العراقية هي الأهم لأنها تشكل المدخل لمجموعة منافسات محلية وإقليمية قد تستدرج دول الجوار إلى مواجهات سياسية قاسية. العراق الآن بات شبه منقسم إلى «فيديراليات طوائف» بعد حصول سلسلة من التصفيات المذهبية ساهمت في فرز الساحة إلى «دويلات» غير متصالحة سياسيا. فكل «دويلة» تجاور أخرى في حال قلق وتوتر. وداخل كل «دويلة» توجد انقسامات حزبية ومراكز قوى تهددها بالانشطار إلى مجموعات مسلحة تخضع إلى سلطات أمراء الحرب.

هذا التوصيف الواقعي لساحة العراق يؤكد احتمال ذهاب بلاد الرافدين إلى مزيد من التشرذم في حال لم يتوافق أهلها على صيغة تعايش تنقذ البلد من مشاحنات سياسية/ أهلية تمنع قيام دولة واحدة وموحدة في المستقبل.

من الناحية الواقعية، باتت ساحة العراق منقسمة منذ نحو السنتين إلى ثلاث دويلات واحدة في الشمال (كردية) وثانية في الجنوب (شيعية) وثالثة في الغرب (سنية). وفي الوسط تدور معارك تصفيات وتهجير للسيطرة على بغداد وجوارها. كذلك تدور نزاعات خطيرة على هوية مدينة كركوك الغنية بالنفط.

من الناحية النظرية، تبدو كل «دويلة» مرشحة لاهتزازات سياسية في الطائفة نفسها أو في المنطقة أو بين عشائر الأكراد الموزعة على ولاءات طالبانية وبارزانية. ففي الجنوب تشهد المناطق منافسات على مواقع النفوذ بين مراكز القوى الشيعية. وفي حال تطور الوضع إلى درجة التعارض الدموي فإن هذه «الدويلة» ستتعرض لانقسامات ممتدة إقليميا. وفي الغرب تشهد المناطق السنية سلسلة خلافات سياسية بين مراكز القوى أدت إلى حصول مواجهات واقتحامات وتصفيات واغتيالات بين التحالفات العشائرية ومنظمات سياسية. وفي الشمال تشهد المناطق الكردية بعض الهدوء الأمني، ولكن تأزم العلاقات السياسية وانبعاث هواجس أمنية بسبب الخلاف على هوية كركوك وظهور مخاوف تركية من احتمال تمدد «الدولة الكردية» إلى الأناضول يؤشر إلى احتمال التصادم بين الأطياف المحلية.

هناك ما يشبه القنابل الموقوتة في ساحة العراق. وكل قنبلة تحمل في داخلها مجموعة شظايا ملونة بالطوائف والمذاهب والعشائر والأقوام. وكل شظية تعكس طموحات محلية أو امتدادات إقليمية تبدو جاهزة للتدخل إما دفاعا عن مصالحها وإما حرصا على أمنها وإما محاولة للمشاركة في اقتسام الغنيمة.

لبنان

في لبنان، وهو أقل أهمية من العراق، تبدو اتجاهات الرياح الإقليمية والمحلية سائرة نحو التشرذم في حال استمرت الدولة على ضعفها وتواصلت التجاذبات السياسية والأهلية من دون توافق على صيغة تجدد العيش المشترك.

بلاد الأرز أيضا منقسمة من الناحية الواقعية. ففي الجنوب هناك ما يشبه «الحكم الذاتي» في منطقة يشكل الشيعة غالبيتها السكانية. وهذه المنطقة بحكم موقعها الاستراتيجي على حدود فلسطين المحتلة باتت الآن مراقبة دوليا بعد عدوان الصيف الماضي وانتشار قوات الأمم المتحدة تحت سقف القرار 1701. وفي الجبل هناك مواقع نفوذ تقليدية موزعة على كتلتين: الدروز يشكلون غالبية نسبية في ثلاثة أقضية تقع في جنوب محافظة جبل لبنان، والموارنة يشكلون غالبية نسبية في ثلاثة أقضية تقع في شمال المحافظة. كذلك البقاع ينقسم تقليديا إلى كتلتين يشكل الشيعة الغالبية السكانية في شماله والسنة غالبية نسبية في جنوبه. أما الشمال فهو أيضا يتشرذم إلى أقضية شبه طائفية أو مذهبية. فالشمال الأقصى مع طرابلس يشكل السنة غالبية نسبية بينما تتوزع الطوائف المسيحية من موارنة وأرثوذكس أقضية الشمال الواقعة على تخوم جبل لبنان. وضمن هذه الإطارات الإدارية تقع العاصمة والمدن الصغرى. فبيروت منقسمة إلى شطرين شرقي (مسيحي) وغربي (مسلم). وفي غرب العاصمة أخذت تترسم معالم خطوط مذهبية بين السنة والشيعة بسبب التوترات الأهلية التي عصفت بلبنان في السنوات الثلاث الماضية. وفي الجنوب هناك مدينة صيدا وجوارها السني وصولا إلى إقليم الخروب في قضاء الشوف. وفي البقاع هناك مدينة زحلة الكاثوليكية ومحيطها المسيحي.

هذا التوزع الطائفي/ المذهبي في لبنان ليس جديدا فهو تَشكَّل نسبيا خلال فترة الحروب الأهلية/ الإقليمية التي اندلعت بدءا من العام 1975. ولكن الخطر ازداد حين انكشفت الساحة دوليا وإقليميا وظهرت إلى السطح مجموعة خيارات سياسية تهدد بإعادة إنتاج صيغة تعايش ليست بالضرورة متوافقة أو متشابهة مع التكوين الطائفي/ المذهبي الذي كان سائدا في فترات سابقة. فهذا البلد دخل نظريا في إطار متغيرات ديموغرافية (سكانية) تحمل معها ثقافاتٍ غير متجانسة ورؤى متخالفة في نمط الحياة وأسلوب المعاش.

الصومال

في الصومال البعيد جغرافيا تبدو صورته السياسية قريبة نسبيا من تلك الخريطة السكانية التي أخذت ترتسم معالمها على الأرض. فالصومال اضمحلت منه الدولة منذ تسعينات القرن الماضي وانشطر أهليا إلى ثلاثة مراكز تتوزع النفوذ على مناطق خاصة تسيطر عليها تحالفات قبلية.

الصومال دينيا ومذهبيا ينتمي بنسبة 90 في المئة إلى الإسلام وأهل السنة، ولكنه ينشطر قبليا إلى مجموعات إثنية وتحالفات تتحكم في إدارتها علاقات قرابة ومصاهرة. وبسبب تشنجات العشائر وفشلها في تكوين حكومات محلية مستقرة نشطت «المحاكم الإسلامية» في وسطها ونجحت في تشكيل قوة ضغط ساعدت على ضبط الأمن وإعادة الهدوء تحت سقف الشريعة. إلا أن سلطة «المحاكم» التي شكلت قوة إدارية محلية كانت غير قادرة على مواجهة تدخلات إقليمية عسكرية مدعومة دوليا من الولايات المتحدة.

الآن عاد الصومال إلى الفوضى السياسية بعد التدخل الدولي/ الإقليمي الذي ساهم في تقويض سلطة «المحاكم»، ولكنه فشل في صوغ نظام بديل يضمن الاستقرار ويؤسس قواعدَ شرعية لنهوض دولة من تحت حطام البلد العربي الذي يتحكم في مواقع استراتيجية مهمة على مدخل البحر الأحمر وفي وسط القرن الإفريقي.

المنطقة إذا تواجه استحقاقاتٍ أهلية خطيرة في ثلاث ساحات مكشوفة دوليا تمتد من الرافدين إلى المشرق وصولا إلى عمق البحر الأحمر. فالساحات الثلاث تعيش أجواء حروب أهلية ومهددة بانقسامات طائفية ومذهبية وقبلية ممتدة إقليميا. كذلك تمر كل ساحة بحالات من التجاذب السياسي والتنافس الداخلي بين مراكز القوى؛ ما يزيد من اشتعال نيران الاقتتال والتدافع وربما التذابح.

هذا الوضع المفتوح على احتمالات كثيرة منها الفراغ الأمني وانجذاب القوى المحلية نحوه، ومنها تعطيل إمكانات إعادة بناء الدولة وما تمثله من رمزية سياسية وشرعية دستورية توحد الولاءات الطائفية والمذهبية والقبلية في مرجعية مدنية مشتركة، ومنها أيضا وهذا هو الأخطر احتمال تحوّل هذه الساحات المكشوفة إلى «نماذج» تشد دول الجوار إليها أو تشجعها على التدخل لتركيز مواقعها وبسط نفوذها.

الاحتمال الأخير هو الأسوأ وغير مستبعد حصوله في حال قررت الولايات المتحدة تغطية فشلها الاستراتيجي في الهيمنة على المنطقة بسياسة تقوّض استقرار الدول اعتمادا على تحريك آليات التفكيك الداخلية كما هي حال العراق ولبنان والصومال الآن. فالدول الثلاث موجودة اسميا على الخرائط السياسية الجغرافية، ولكنها فعليا غير موجودة ميدانيا على الأرض. فهناك حكومات تدير مناطقَ محلية (الصومال) وهناك حكومة واحدة (العراق ولبنان)، ولكنها غير قادرة على ممارسة نفوذها إلا في دائرة مصغرة. فالسيادة محدودة في نطاق ضيق. وهذا يعني أن احتمالات الانهيار واردة حين تنضج الظروف الدولية والإقليمية التي تسمح بذلك. وبعدها يأتي دور القوى المحلية التي ستتكفل بإضفاء شرعية على متغيرات ارتسمت معالمها الواقعية على الأرض منذ فترة ليست بعيدة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1685 - الثلثاء 17 أبريل 2007م الموافق 29 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً