العدد 1701 - الخميس 03 مايو 2007م الموافق 15 ربيع الثاني 1428هـ

بدايات التأسيس وعثرات الفكرة

منطلقات المشروع العربي للوحدة القومية(1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عقد «المؤتمر القومي العربي » جلسات الدورة الثامنة عشرة في المنامة بين 28 و30 أبريل/ نيسان الماضي ناقش خلالها «حال الأمة» وما آلت إليه أوضاعها على مختلف المستويات الوطنية والسياسية والأمنية والأهلية. ودعا المؤتمر في بيانه الختامي إلى اطلاق مشروع نهضوي للأمة العربية.

وفي مناسبة إنعقاد المؤتمر طرحت سجالات تتصل بالأسباب التي أدت إلى فشل الفكرة وعدم توصل الشعوب العربية إلى تحقيق حلم الوحدة.

والمقال المنشور هنا يستعرض العوامل التي ساهمت في تعطيل المشروع العربي في بداياته الأولى.

تعاني الشعوب العربية في مرحلتنا الراهنة حالات من الذهول والضياع والانفصام في الشخصية. ومثل هذه الحال الممزقة تطرح أسئلة عن الأسباب. فما العوامل التي ساهمت في تشكيل ازدواجيات عربية؟ فالعربي في أيامنا حائر في تحديد هويته. ومن كثرة الهويات لا يعرف كيف يتعامل معها ويرتبها في نظام أولويات. فهل هو عربي أولا ومسلم ثانيا ومصري أم سوري أم لبناني أم بحريني ثالثا؟ وهل هو مسلم أولا وعربي ثانيا ثم تأتي بطاقته القِطْرية (الكيانية) في المرتبة الثالثة؟

اختلاف الأولويات بعثر على العربي تحديد هويته الأولى. والأسوأ من ذلك بدأت الآن تظهر هويات جديدة ضيقة في افقها السياسي ومحكومة بشروط مذهبية أو طائفية أو قبلية أو عشائرية أو جهوية. وهذا الجديد هو الأسوأ لأنه من جهة يكشف عن انسداد آفاق القومية العربية في مفهومها الشامل والجامع، وهو أيضا يكشف من جهة أخرى عن فشل مشروعات التوحيد والتحديث التي قادتها الدول القِطْرية (الوطنية) فوصلت إلى حائط مسدود.

الحائط المسدود يعني الارتداد إلى الوراء وتصادم المثاليات بتعقيدات الواقع وبالتالي اضطرار الناس إلى الانكفاء والتقوقع في اطر ضيقة ومتخلفة في وعيها التاريخي ومحاصرة ضمن ولاءات وانتماءات لا تتجاوز حدود القرية أو المنطقة أو العشيرة.

السؤال: لماذا وصل الوطن العربي إلى مثل هذه النتيجة الكارثية؟ الإجابة عنه تتطلب عودة إلى البدايات. فالبداية تحدد عناصر النهاية. وكل نتيجة تقوم على مقدمة. والمقدمة الصحيحة تعطي نتائج صحيحة، والخاطئة توصل إلى نتائج خاطئة.

المشكلة إذا لا تبدأ من اليوم. فاليوم هو نتاج أمس. وأمس لا ينعزل عن اليوم الذي قبله. وسلسلة الأيام هذه يمكن العودة بها إلى القرن التاسع عشر حين شهدت المنطقة العربية آنذاك بدايات تبلور الفكرة القومية المعاصرة في لحظة تاريخية مفارقة تمثلت في أربعة تطورات:

الأول نهوض أوروبا وظهور فكرة الدولة القومية في سياق تطور تاريخي (عمراني) متدرج استجاب لحاجات السوق وضرورة توحيدها خدمة لوظائف اقتصادية وسياسية.

الثاني بدء انهيار السلطنة العثمانية وظهور فكرة القومية في سياق لا تاريخي تتعارض مع شروط العمران ما دفع النخبة إلى البحث عن بدائل تعوض تفكك السلطنة وتبعثرها.

الثالث عدم وضوح الفكرة القومية ومداها السياسي والجغرافي ساهم في توليد تجاذبات أهلية زعزعت أركان مشروع التوحيد منذ بدء العمل في تشييده فظهرت الفكرة عند البعض «تقسيمية» ومعادية للإسلام وعند البعض الآخر كانت اقرب إلى الايديولوجيا الحالمة بالمستقبل والمتجاوزة للواقع الديني والطائفي والمذهبي والعشائري وغيرها من انقسامات أهلية.

والرابع أن الفكرة كانت مثالية (نخبوية) وليست جماهيرية ما أوقع المشروع في ملابسات سياسية بسبب عدم وجود دولة بديلة عن السلطنة العثمانية تُعبر دستوريا عن «القومية العربية» وأيضا بسبب وقوع معظم المنطقة العربية تحت الاحتلال الأجنبي (الأوروبي).

كل هذه العوامل الموضوعية والذاتية شوهت الفكرة القومية العربية التي نهضت في كتابات «النخبة» وشعارات «الجمعيات السياسية»، ولكنها فشلت في تأسيس مشروع ينهض بالفكرة واقعيا. وهذا ما جعل دعاة الفكر القومي يراهنون على المستقبل في وقت كانت آليات الواقع تجرف معها كل العناصر التوحيدية للأمة الجديدة.

البدايات

هناك صعوبة تاريخية في تحديد لحظة زمنية لظهور الفكرة القومية في طبعتها المعاصرة. فالفكرة كانت جديدة التكوين حتى في القارة الأوروبية. فالقارة شهدت بدءا من القرنين السادس عشر والسابع عشر تلك المحاولة البريطانية لتوحيد السوق تحت مظلة الملكية الدستورية. والتجربة البريطانية تعتبر حتى الآن فريدة من نوعها لأنها أصلا قامت على وحدة الدولة الدستورية (المملكة المتحدة) التي تضم أربع قوميات: انجليزية، اسكتلندية، ايرلندية وويلزية.

هذا التشكيل القومي الرباعي تأسس بالقوة العسكرية حين نجحت القومية الكبرى (الانجليزية) في احتواء القوميات الصغيرة وضبطها تحت لواء المملكة الدستورية مع اعتراف بخصائص وتقاليد ولغات الشعوب الأخرى.

تكررت هذه المحاولة التوحيدية في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر حين نهضت دولة مركزية تعمل على ربط «الممالك» الصغيرة ودمجها في بوتقة سياسية تحت مظلة ملكية دستورية. الا ان تجربة فرنسا كانت اعنف من بريطانيا إذ لجأت الدولة المركزية إلى الدمج القسري في ثقافة ولغة وتقاليد واحدة. وأدت سياسة التذويب إلى تركيب دولة مستبدة ساهمت لاحقا في توليد ثورة جمهورية رفعت شعارات إنسانية. ولكن الثورة الفرنسية اضطرت لاحقا إلى استخدام أساليب البطش السياسي للمحافظة على وحدة الدولة وهويتها القومية.

التجربتان البريطانية والفرنسية تعتبران على اختلافهما المنهجي والتكويني البدايات الأولى لظهور النزعة القومية التوحيدية أو الاستقلالية في أوروبا في القرن التاسع عشر. فبعد بريطانيا وفرنسا ستظهر الفكرة بقوة وفي اطر جديدة في ألمانيا، وبعدها ستظهر بالشروط والمواصفات نفسها في إيطاليا.

هذا لا يعني أن الفكر القومي في ألمانيا وايطاليا لم يظهر الا بعد قيام الدولة القومية. فالفكرة طُرحت في أدبيات وأندية وجمعيات وكتابات فلسفية واجتماعية. فهي بدأت دعوة وانتهت في صيغة مشروع دولة قومية قادها بسمارك في ألمانيا وغاريبلدي في ايطاليا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

الفكرة إذا كانت جديدة ومستحدثة حتى في أوروبا. ولكنها كانت بمثابة جواب تاريخي عن مأزق التفكك السياسي (عشرات الممالك والدوقيات وجمهوريات المدن أو حكومات محلية وإدارات ذاتية). فالوحدة القومية في أوروبا خطوة تقدمية إلى الأمام لأنها كانت ترد على حاجة واقعية وتملك وظيفة تاريخية ترفع السوق المحلية من التمزق المذهبي والقبلي والعشائري والمناطقي إلى مستوى توحيدي ارقى يضبط الانقسام الأهلي تحت سقف دولة مركزية قومية.

هذا النجاح الذي حققته الفكرة في أوروبا ساهم لاحقا في توليد مشروعات قومية تأسست تاريخيا على مجموعة عناصر لغوية أو ثقافية أو طبيعية أو عرقية متقاربة وقادتها دولة قوية تحمل سلسلة أهداف توحد الناس في بوتقة جغرافية ذات مصير مشترك ومصلحة عليا. الفكرة في أوروبا كانت دعوة للتجانس وتقريب الاختلافات وتوحيدها في هوية قومية جامعة وضمن ضوابط المصلحة التي فرضها التطور التاريخي (العمراني) على الناس.

هذه الشروط الموضوعية والذاتية لم تكن متوافرة في المنطقة العربية حين أخذت النخبة تترجم وتقتبس أدبيات النهضة الأوروبية. فالقومية كانت غامضة لدى الجمهور العربي/ المسلم. وكانت تقوم على مجموعة أفكار خلطت بين اللغة والجنس ولم تكن تستند إلى واقع عمراني متقدم أو دولة قائدة تخوض المعركة لتوحيد السوق ضمن ضبط المصلحة المشتركة. كذلك خلطت الأفكار القومية بين دعوات إصلاح السلطنة العثمانية ودعوات الاستقلال والانفصال عن مظلة «الخلافة الإسلامية». وبسبب هذا الغموض المفهومي وضعف العمران البشري تولدت مجموعة قوميات نظرية وغير واقعية ظهرت أمام الجمهور المسلم وكأنها تيارات أجنبية تريد تمزيق وحدة الأمة الإسلامية وتخريب مظلتها الخلافية.

«العثمانية» في القرن التاسع عشر كانت هوية توحيدية جامعة تنسب كل الأقوام والأعراق والأديان والمذاهب والطوائف إلى دولة واحدة تتألف من ولايات تجتمع تحت مظلة السلطنة. فالسلطنة كانت تشكل ذاك الوعاء التاريخي الذي يضبط العلاقات ضمن تراتبية أقوامية ودينية. فالعربي والتركي والفارسي والإفريقي والآسيوي هو «عثماني» في معنى الرابطة السياسية. كذلك المسلم والمسيحي واليهودي حتى الوثني كان ينتمي في شكل من الاشكال إلى هذه الدولة (السلطنة) التي تشكلت من مجموعات متنوعة تعيش مجتمعة أو مستقلة أو متنافرة على ارض جغرافية واسعة ومنبسطة.

هذه «الوحدة» العثمانية كانت تضمن حرية الحركة والتنقل والإقامة في المنطقة التي يختارها الفرد من دون حواجز أو جمارك. وأيضا كانت «العثمانية» تعني التنوع والتعدد في إطار دستور مشترك يحترم العادات والتقاليد (قوانين الأحوال الشخصية) كذلك يشرّع اختلاف الأديان والمذاهب والألوان ضمن نظام «الملل والنحل».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1701 - الخميس 03 مايو 2007م الموافق 15 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً