يحتار الناقد من أين يبدأ قراءة كتاب الكاتبة الصحافية منى سكرية عن السيدمحمد حسين فضل الله. فالكتاب الذي صدر عن دار النهار في بيروت تحت عنوان «هكذا تحدث... هكذا قال عن سنوات ومواقف وشخصيات» يتضمن حوارات طويلة وعميقة أجرتها سكرية مع المرجع الديني على مدى سنة ونصف السنة بدأت في 25 يوليو/ تموز 2005 وتوقفت خلال العدوان على لبنان في الصيف الماضي لتستأنفها في سبتمبر/ أيلول 2006.
الحوارات جاذبة في أسئلتها وأجوبتها فهي تتضمن مختلف الصور والحوادث والانطباعات التي مرّ بها السيد منذ طفولته في النجف إلى العدوان الأخير الذي دمّر منزله ومكتبته في حارة حريك في الضاحية الجنوبية من بيروت. وأهمية الحوارات أنها جامعة وشاملة تحتوي على الكثير من الأسئلة الدقيقة والحساسة التي أجاب عنها السيد كعادته برحابة صدر وانفتاح وشفافية ولم يتردد في إعطاء معلومات وتوضيح مواقف وتصويب أقاويل الأمر الذي جعل من الكتاب وثيقة رسمية أكدها بتقديم أعقبته مقدمة كتبها رئيس الوزراء اللبناني السابق سليم الحص.
الكتاب فعلا توثيقي من حيث تسجيله لكل المحطات التي مرّ بها السيد في حياته الشخصية والفقهية والسياسية والفكرية وغيرها من جوانب أخرى تتصل بالسيرة ومحيطها وتطورها على مختلف المستويات الإنسانية والاجتماعية.
الكاتبة سكرية وزعت الحوارات على خمسة أبواب. الأول تناول الإسلام والحوار ومتفرعاته من قبول الآخر والعنف وصولا إلى التكفير. والثاني تناول هجمات 11 سبتمبر 2001 وما تفرع عنها وتلاها من اتهامات ومواجهات بين الإسلام والغرب. والثالث تحدث عن الإصلاح الديني وتضمن رأيه بحزب الدعوة وعلاقته بقم والنجف والأزهر وغيرها من قضايا فكرية وسياسية تتصل بوجهة نظره للعدو و «إسرائيل» ومشروع الإصلاح والاجتهاد وبناء الإنسان. والرابع تناول السيرة الذاتية وما أسمته الكاتبة «الحزن النبيل» وكل ما يتفرع أو يتصل بتلك السيرة وما رافقها من أجواء وفضاءات واتصالات ومعارف بقيادات عربية وإسلامية في المنطقة. وفي الباب الخامس والأخير يتحدث السيد عن العدوان الأخير وحزب الله ومواجهة «إسرائيل» وتحطيم البنى التحتية وتدمير المنازل وتشريد الأهل فضلا عن منزله وذكرياته وما فقده من أشياء خاصة بينها نسخة نادرة من القرآن الكريم.
السيد في حواراته أراد تقديم ما عنده من رؤى فكرية وسياسية وفقهية واجتهادية بروحية منفتحة وشفافة حاول من خلالها إعادة تركيب صورة تعرضت للكثير من الملاحظات أو الانتقادات في السنوات الأخيرة وخصوصا تلك الجوانب المتصلة بعلاقته مع إيران والمرجعية الدينية. الأجوبة كانت واضحة ومتواضعة حرصا على الموضوعية التي أراد منها أن تكون حجر زاوية لكل الحقول التي تعرض لها.
إنه كتاب مكاشفة وهذه نقطة قوة أعطت الحوارات جاذبية نظرا إلى غناها بالمعلومات والتوضيحات إضافة إلى تلك الفتاوى المتقدمة على العصر وخصوصا في نقاط حساسة ودقيقة يتهرب الكثير من المراجع التعامل معها بوضوح وحسم. فالسيد لم يتردد في الإجابة عن موضوعات كالرسم والموسيقى والسينما والكمبيوتر والإنترنت والنقال (الموبايل) وكل ما يشغل بال المسلمين في عصر العولمة والاتصالات والانفتاح والاختراعات والاكتشافات العلمية والبيولوجية.
طفولة بائسة... وفلسفة الحزن
الكاتبة الصحافية سكرية اختارت في حواراتها عشرات الأسئلة ومئات النقاط ولم تترك ناحية إلا وتطرقت إليها حتى يكون الكتاب شهادة على عصر وتجربة شخصية محكومة بسيرة ذاتية. ولعل السيرة الذاتية تعتبر الشيء الخاص في الكتاب الذي احتوى على جوانب فكرية وفقهية وتفسيرية للكثير من الآيات القرآنية وخصوصا تلك التي تتطرق للإنسان والمرأة والرجل.
هذا الخاص في الكتاب أعطى لمسة حساسة وجميلة عن مرجع ديني موسوعي يتميز بالشمولية والانفتاح والترفع عن الذاتية ويميل نحو تأكيد الوحدة الإسلامية من نظرة توحيدية جامعة وشاملة للإسلام. فالسيد يتحدث عن طفولته بالقول: «أنا عشت طفولتي وكانت طفولة بائسة». طفولة السيد كانت في النجف وهي «بلد تقليدي. فلا يوجد فيها فرص للأطفال (...) إننا كنا نعيش حالة قاسية من الفقر، وكان ذلك يظهر على ملابسنا وعلى طعامنا وشرابنا وما إلى ذلك».
تحدث السيد عن العراق فقال: «كنا نعيش في بلد الحزن. فنحن نواجه مثلا في مواسم عاشوراء حالة البكاء المتنوع في مجالس العزاء أو في مواكب العزاء. حتى اننا كنا نعيش حزنا باطنيا من خلال ما نواجهه من مواكب التطبير (...) فكل ذلك كان يجعلنا نعيش في جوّ حزين يستبطن الألم» (ص 163).
مسألة الحزن تحوّلت مع السيد إلى فلسفة وتطوّرت إلى انفعالات ومشاعر نجح مع الأيام في توظيفها لخدمة «الأوضاع العامة التي يعيشها المسلمون من أوضاعهم السياسية» ففي «داخل نفسي الكثير من حالات الألم على الواقع الإسلامي». أعطى السيد مسألة الحزن اللون الرمادي «لأنني بين وقت وآخر أحاول أن أجد الأمل في قلب الألم، والتفاؤل في قلب التشاؤم».
هذه العلاقة الفلسفية/ اللونية مع مسألة الحزن دفعت السيد إلى إلقاء محاضرة في لندن في مطلع الثمانينات من القرن الماضي تحدثت عن «الشخصية البكائية» المتمثلة في الواقع الذي يعيشه الشيعة. فهذا الواقع «كأنه واقع البكاء». مناسبات البكاء هذه انعكست أكثر ما يكون على العراق وشخصيته. «فالغناء العراقي هو غناء بكائي، حتى ان تجويد القرآن في العراق هو تجويد بكائي» (ص 165).
مسألة الحزن وفقدان الأحبة «ربما يعيشها الإنسان بشكل لا شعوري في أعماقه» فهي «مسألة إنسانية» والألم في نفس الإنسان «يمثل حالة الإبداع الشعوري» (ص 166).
في هذه الأجواء الحزينة عاش السيد سنوات طفولته و «كنا بين وقت وآخر نخرج إلى خارج النجف، إلى منطقة تسمى الجدول، وهي منطقة يجري فيها نهر فرعي (...) وكنا نخرج أيضا إلى بلدة الكوفة التي يشقها نهر الفرات الكبير» (ص 166). يتحدث السيد في حواراته عن النجف ودروسه الدينية وعلاقته بالمراجع واتصالاته وكتاباته الشعرية ومقالاته وتعليقاته في «الأضواء» واشتغاله على مسألة الحوار في الإسلام ومنطق القوة ومعارفه وانطباعاته ودوره السياسي نافيا علاقته بتأسيس حزب الدعوة أو حزب الله أو خطف الأجانب (الرهائن) في بيروت أو التفجيرات ضد قوات المارينز. ويتحدث أيضا عن معرفته أو اتصالاته بكل الشخصيات السياسية والفكرية والفقهية والمرجعية في النجف ولبنان وإيران من السيد الشهيد محمدباقر الصدر إلى الإمام المغيب موسى الصدر إلى الإمام الخميني والإمام الخوئي والحوزات العلمية في قم. فالسيد أراد تقديم جردة عامة لكل الفترات بهدف توضيح الكثير من الالتباسات بما فيها علاقته بإيران واختلافه معها وموضوع تعدد المرجعيات ومسألة ولاية الفقيه وغيرها من قضايا يصعب استعراضها في مقال. فالكتاب متعدد الوجوه ومتنوع الحقول إلى درجة يحتار القارئ من أين يبدأ في الدخول إلى الأبواب التي اشتملت على الكثير من النواحي ويصعب تلخيصها أو ضبطها في فقرات.
الحوارات عامة وشاملة وجامعة لذلك تحتاج من القارئ قراءة الكتاب للاطلاع على تفصيلات لا يمكن إيجازها في كلمات قليلة.
العدد 1714 - الأربعاء 16 مايو 2007م الموافق 28 ربيع الثاني 1428هـ