العدد 1728 - الأربعاء 30 مايو 2007م الموافق 13 جمادى الأولى 1428هـ

المــصـــحّــــة

صارت الطريق الى المصحة العقلية التي تأوي والده محفوفة بالوجل والوساوس... كلما أطل المبنى الكالح أمامه تذكّر حالات الهياج والانطواء النفسي الذي ينتابه... حالات هستيرية تنتابه فيوسع أمه هجرا! يتركها لوحشة تكاد تنهش جسدها الغض. يظل يتمتم: «في هذا الجزء من المكان/العالم... كل شيء قابل للخروج عليه... كل فكرة هي محض هراء... وكل هراء هو محض فكرة ... بشر تحت رحمة أقراص تعيد اليهم توازنهم وهدوءهم المؤقت... لكنهم في الجانب الآخر من الحالة... عقلاء لدرجة الصدمة»!.

قبل أن يبلغ بوابة المصحة... يلفت انتباهه تبدّل الحارس الموكول بالبوابة مع كل زيارة... يبدو في الثلاثين من عمره... ومن دون أن يشعر به لاحظ أنه يحدّث نفسه وبإيماءات تنبئ عن حوار حاد بينه وبين مجموعة غير مرئية!.

يدلف الى الممر المؤدي الى الغرف... روائح العقاقير والمطهرات تكاد تعلق في الذاكرة كلما صادفها في أمكنة أخرى. مجموعة من الممرضات يسحبن أحد المرضى الذي خارت قواه بعد علقة ساخنة تعرض لها... ثمة آثار دماء على فمه وحاجبيه... جسده أخذ نصيبه من جلسات العلاج الأخرى!.

في جانب من الممر يتوقف أمام مريضين يلعبان «الورق»... لم يشعرا بوجوده... منهمكان في اللعبة... كلما خسر أحدهما يعمد الى التخلص من ملابسه قطعة تلو الأخرى الى أن يحتفظ بالقطعة الأخيرة التي تستره!.

في جانب آخر اتخذ مريضان من الممر الممتد كحلبة سباق... يذرعانه جيئة وذهابا... فيم شاب في العشرين من عمره ممسكا بدمية محترقة الأنف والشعر... يربت عليه ... يضمها اليه بحنو بالغ.

ثمة ممرض موكول بحراسة الغرفة... تقاطيع وجهه تنم عن موهبة سجّان... يذكّر بحفلات استجواب! يلقي عليه التحية، على الرغم من معرفته المسبّقة من أنه لن يرد عليها... يكتفي بالتحديق فيه من دون أن ينبس ببنت شفة.

يدلف الى الغرفة ... يراه ملقى على جنبه الأيمن وقد شدّت ساقاه الى السرير، فيما أطلقت يداه. يشعر بوجوده... يكتفي بابتسامة متعجّلة، ليعود منكفئا على نفسه.

- كيف أصبحت اليوم؟.

- وما الذي تغيّر؟ فقط،اختطف السجّانون زي الملائكة!.

- لكنك بمأمن هنا... لن تموت سهوا... على الأقل ثمة من يراقب توقيت موتك!.

- ماذا عنكم أنتم في الخارج؟ هل بتّم محصنين من تلك المراقبة؟ أشعر بأنني قابل للكسر كلما ادّعى السجّانون حرصهم على أن لا أتمتع بيقظة طويلة... يصرون على أن يدفعوني دفعا الى النوم بأقراص تؤكد أهميتهم وتعمّق هامشيتنا. سأمنا النظر الينا باعتبارنا مصدر البشاعات الوحيد في هذا العالم!.

يشعر بأنه يستدرجه الى مساحات لن يتمكن من مجاراته فيها... وهو الذي عُرف عنه مكابرته الشديدة، وبديهته المتوقدة... وذاكرة تحتشد فيها وجوه وأحاديث وأمكنة وحتى همسات.

يلزم الصمت ... ثم لا يلبث أن يتذكر ليلة أن هجم العسس على البيت في محاولة لاستجوابه بتهمة التحريض على مختار القرية... بعد أن أشاعر بين سكانها لأكثر من مرة أنه شهد علاقاته المشبوهة مع معظم نساء القرية، والحقول التي صادرها من فلاحين بالكاد يعيشون تحت حد الكفاف ... بات محط أنظار المهمشين والذين لا سند لهم... صار لسانهم الذي ينطق، وعينهم التي ترى، وأذنهم التي تسمع. فيما بعضهم كان معنيا بالنساء اللاتي شهد علاقاتهن بمختار القرية، عمدوا على تحريض المختار عليه... منذ تلك الليلة التي غاب فيها لمدة أسبوعين، وهو يرى كوابيس ينهض منها على صراخ كفيل بإيقاظ مقبرة!.رفض الحديث الى زوجته وابنه الذي اعتبره مكمن أسراره عمّا حدث في الأسبوعين اللذين احتجز فيهما بمركز القرية، على الرغم من أن آثار الكدمات التي غطت معظم أجزاء جسده، كانت كفيلة بالوقوف على جانب مما عاناه... وهو الذي لم يعر جسده أدنى اهتمام... كأنّ قلبه قُدّ من حديد.

يقطع عليه شريط تذكّره.

- هل أصبح البيت أكثر سعة من ذي قبل بعد أن خلا من الكوابيس، وانتباهة النصف الأخير من الليل؟

- الزوايا معتمة... نَحِنُّ الى صراخك الذي أحال يقظتنا الى كوابيس... تنتظرك مداخل البيت والنخلة التي كنت تسامرها الى أن يُنهك جسدك فتنام في ظلالها... ينتظرك المغبونون والمُسرّحون من أعمالهم والمصادرة أرزاقهم تحت سياط السطوة والغلّ.

- هذا الوقت فتنة... فتنة لمن لم يحصّن نفسه من أمكنة تستدرجه الى الخروج على ما يظنه الناس عقلا... فيما هو مكمن الجنون... الجنون الذي لا يعود معه المرء قادرا على التمييز بين بهيمة الأنعام وأمك سليطة اللسان!.

- تفتقدك هي الأخرى... أسمع لها نشيجا جارحا حين تأوي الى النوم... استرق السمع وراء الأبواب وهي مسترسلة في جلسة عتاب موحش!.

يدخل الحارس في الأثناء حاملا احدى الحُقن برفقة ممرضتين... يبادر الحارس الى تقييد يديه الى السرير... وفي حركة خاطفة يسدد لها لكمة تطرحه أرضا... فيما تلوذ الممرضتان بالفرار في محاولة لاستدعاء المدد.

ثمة استنفار في العنبر المؤدي الى الغرفة... فيما ابنه يبادر في محاولة منه لإيقاظ الحارس ...يقتحم الغرفة حارسان وطبيبين... وفي حركة خاطفة يهوون عليه بشكل ضارٍ بكل ما تطاله أيديهم... يسقط الى الأرض... يعمد أحد الطبيبين الى سحب يد الابن وغرز حقنة في وريده... لحظتها تنتاب الأب حال هستيرية من الضحك المتواصل... يدخل الابن في غيبوبة مؤقتة ويتم سحبه كما تسحب الذبيحة الى احدى الغرف في العنبر!.

لحظات ويعود الطبيبان برفقة أحد الحراس الى غرفته، وما الأب ممعنا في حاله الهستيرية من الضحك المتواصل.

يبادر احد الحراس الى شد وثاقه الى السرير فيما يعمد أحد الأطباء الى يده الى حقنة في يده يغرزها في أحد الأوردة... يدخل في نوبة اغماءة ألفها... ألف ما قبلها... ضرب مبرح كثيرا ما استغنوا بسببه عن الحقن المهدئة كي يعود الى هدوئه النادر.

يدخل في نوبة من الهذيان:» غياب يتلو غيابا... نساء برسم الإقتسام... هائمون على وجوههم يبحثون عن كنوز من الوهم... لا سماء تظلهم... ولا أرض تقلّهم... منذورون لفداحات كأنها تأبى الفطام».

في الجهة الأخرى من العنبر... يجد الابن نفسه واحدا من نزلاء المصحة... في التوقيت والمكان الخطأ...أطرافه مشدودة الى السرير. ثمة نشوة بالغة تركتها الحقنة ... وثمة ضجر يكفي لتخريب طمأنينة ومرح العالم. يظل يتمتم :» ما الذي تفعله مثل هذه الأمكنة في بشر أصحاء... يدخلون اليها في ذروة عقلهم... ويغادرونها إما الى المقبرة.. أو الى سجن الحياة العملاق؟.. باتت الطريق الى المصحة... الطريق المحفوفة بالوجل والوساوس أكثر رحمة من خلوة تعاد فيها صياغة الذهن البشري... بكبسولة لها فعل السحر كلما اندلقت النشوة»!. نزيلا عريقا أضحى في مصحة كان يتفقد فيها ما تبقى من حضور أبيه!.

العدد 1728 - الأربعاء 30 مايو 2007م الموافق 13 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً