العدد 1750 - الخميس 21 يونيو 2007م الموافق 05 جمادى الآخرة 1428هـ

قصة «خراب البصرة» وما بعدها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تشهد المنطقة العربية وتحديدا ذاك المثلث من غزة ولبنان إلى العراق حالات دمار وفوضى تشبه تلك التي أصابت بلاد الرافدين في عصر الدولة العباسية وتحديدا في عهد الخليفة المعتمد في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). في ذلك الزمان اندلعت «ثورة الزنج» وأدت إلى «خراب البصرة».

اليوم يتكرر مشهد «خراب البصرة» في صور عراقية ولبنانية وفلسطينية. الخراب الأول نجح الخليفة في استيعابه واحتواء تداعياته والاحتفاظ بمساحة ضيّقة مارست عليها الدولة سيادتها. الخراب الثاني تظهر أشكاله في زمن أسوأ ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى احتمال نهوض من كبوة افتعلت في أكثر من مكان ويرجح امتدادها إلى زمن أطول.

مشاهد الحاضر تضغط، وقسوتها بدأت تفتح علينا أبواب الماضي للاستفادة من دروسه وعبره. فماذا تعني مشاهد «خراب البصرة»؟ وكيف تعامل معها الخليفة؟ وعلامَ انتهت إليه الدولة في وقت كان المعتزلة (النخبة المثقفة) قاعدين يتفرجون على مشاهد الخراب؟ وبمناسبة الحاضر، هنا بعض مقتطفات من وجوه خراب البصرة القديم.

«خراب البصرة» الذي أحدثه الزنج في ثورتهم في عهد الخليفة المعتمد لم يقتصر على العمران والبشر بل شمل الكثير من القطاعات والنواحي. فالثورة (الفوضى) التي استمرت 14 سنة كانت تعكس دلالات سياسية واجتماعية وثقافية لها صلة بأخطاء تراكمت زمنيا وانفجرت دفعة واحدة مخلفة كما يذكر الصولي في تاريخه أكثر من مليون ونصف المليون نسمة من الضحايا. ورجح المؤرخ الصولي أنه سقط في يوم واحد حين اجتاح الزنج البصرة وخربوها وحرقوها أكثر من 300 ألف ضحية.

الثورة لم تكن مجرد حركة تمرد قام بها الجند ضد مركز الخلافة، كذلك لم تكن حركة عصيان أعلنها أحد قادة الجند في مقاطعة نائية أو تابعة للخلافة... بل كانت حركة شعبية - فوضوية اندفع إليها العامة من كل الألوان والأجناس، وعرفت بالزنج مجازا ولكنها في حقيقة الأمر كانت إشارة من الإشارات التي تدل على تحولات في البنية السكانية والتوازن الديموغرافي بين أهل العراق ومجموع القوى الوافدة إلى بلاد الرافدين بحثا عن عمل أو وظيفة في منطقة كانت تعتبر قلب العالم اقتصاديا وتجاريا وماليا وثقافيا. فالمعتمد ليس مسئولا عنها بقدر ما هو الخليفة الذي قدر له أن يدفع ثمن سياسات تراكمت منذ تأسيس بغداد.

المعتمد تلقى نتائج نهج قاده رجال الدولة في الحقبات الممتدة من العام 150 هجرية إلى العام 250 هجرية. ففي هذا القرن عرفت الخلافة العباسية أوج نموها وازدهارها فتوسعت رقعتها وتضخمت ثروتها ودخل رجالها في صراعات دائمة على السلطة؛ما دفعهم إلى الاعتماد على قوى تابعة للخلافة وجلبها إلى بغداد من مختلف المناطق. فالزنج هم تحالف مجموعات من القوى السكانية استجلبت أو نزحت طوعا فشكلت نوعا من الائتلاف المصلحي ضد الدولة وأهل البلاد. وحين اندلعت الثورة لم يكن هناك من برنامج يجمعها سوى العداء للدولة لذلك اتصفت بنزعة الفوضى والتخريب والحرق والقتل؛ لأن قادتها كانوا مجرد عابثين أكثر مما هم يملكون سياسة برنامجية بديلة. وربما يكون هذا هوالسبب الذي أدى لاحقا إلى تلاشيها وتفككها والقضاء عليها بعد أن فشلت في كسب الناس وزرع الثقة والطمأنينة لدى عامة الشعب.

حصلت الثورة في عهد المعتمد. والمعتمد جاء إلى دار الخلافة بعد سلسلة انقلابات شهدتها بغداد بعد مقتل المتوكل وهي كلها تشير إلى ضعف في مركز الدولة وعدم قدرتها على احتواء المشكلات وحماية الأطراف والثغور.

حين جاء المعتمد إلى الخلافة ورث كل تلك الانقسامات والفوضى، ولكنه - وهذا هو المهم - نجح في ضبط الدولة وفرض الاستقرار وإعادة الهيبة للخليفة، على رغم ما شهدته فترته من حركات تمرد وانشقاقات. فالدولة استقرت إلا أنها انكمشت إلى نطاق نفوذها المركزي.

دامت فترة استقرار السلطة طوال عهد المعتمد من 256 هـ إلى 279 هـ (869م - 892م). ففي تلك السنوات (23 عاما) انكفأت السلطة على نفسها ودارت في رحاها وحدودها عشرات المعارك والانتفاضات أخطرها ثورة الزنج التي توقفت في سنة 270 هـ (883م) حين قتل قائدها بهبوذ.

وبسبب التهاء مركز الخلافة في ترتيب شئون داره، ظهرت بوادر الانهيار في الأطراف فأخذ الولاة (رؤساء ولايات الدولة) بالانفصال والاستقلال والتمرد، وبدأت مرحلة جديدة في العصر العباسي وهي نشوء ولايات وانفكاك الدول على أطراف الخلافة وأحيانا على مقربة من المركز. وفي تلك الفترة استقل أحمد بن طولون بولاية مصر في العام 270 هجرية، وفعل الأمر نفسه المهدي عبيدالله حين أظهر دعوته في اليمن وانشق عن الخلافة وأقام على ذلك إلى سنة 278 هـ (891م). وبعدها قرر الارتحال إلى المغرب وتأسيس دولته (المهدية) هناك بالتفاهم مع الدولة الطولونية في مصر وبدعم قبيلة من كنانة في الجزيرة العربية. ومن المغرب ستنطلق لاحقا الدعوة المهدية (الفاطمية) لتعود إلى مصر وتؤسس دولة مهمة هي الدولة الفاطمية.

على هامش الدولتين الطولونية في مصر والمهدية في اليمن ثم المغرب ظهرت أخطر حركة تمرد سياسية ضد الإسلام في عصر المعتمد عرفت بالقرمطية وبدأت في سنة 278 هجرية في الكوفة بقيادة رجل يدعى محمد بن قرمط.

حين توفي المعتمد في سنة 279 هجرية كانت الخلافة انهكت بالفوضى والثورات والانشقاقات وحركات التمرد إلا أنه نجح على الأقل في تحصين مركز الدولة وحمايته وإعادة الهيبة إلى الخليفة ممهدا الطريق لإعادة تأسيس الخلافة العباسية لوريثه المعتضد.

يعد المعتمد أحد رجال الدولة فهو نجح في إنقاذ بقايا الدولة من الانهيار الشامل، ولكنه بسبب الضغوط المستمرة عليه كره الفلاسفة وحقد على المعتزلة وما تفرع عنها ومنها من مدارس امتدت كالأخطبوط في أكثر من مكان وزمان. وعلى رغم أن المعتزلة انتهت سياسيا وأخذت تتداعى أيديولوجيا وتحول شيوخها إلى مجرد متفرجين على الحوادث والاضطرابات شكلت حالات الفوضى حساسية سياسية لدى المعتمد. فعدم الاستقرار دفع الخليفة إلى بغض كتب الفلاسفة وكراهية تلك الترجمات التي أشرف عليها ديوان الخليفة في عهود المأمون والمعتصم والواثق. ولشدة كراهيته استحلف الوراقين (باعة الكتب) في الأسابيع الأخيرة من عهده «ألا يبيعوا كتب الفلاسفة والجدل» (السيوطي، ص 367) بسبب ما أثمرته من أفكار تشجع على الإلحاد ونفي الله وصفاته.

لاشك في أن المعتمد لم يكن وحده في المعركة، فهو إلى جانب عمله السياسي في مكافحة حركات الانشقاق والتمرد والفوضى التي شهدتها الخلافة في عهده شجع طوال سنواته الطويلة في الحكم (23 سنة) الفكر الإسلامي ودعم القضاة والفقهاء والعلماء فتأسست في فترته عشرات المدارس في الفقه والحديث لاتزال صامدة حتى أيامنا.

في فترة المعتمد استردت الدولة مكانتها في نطاق نشاطها ومحيطها المركزي، كذلك شهد الفكر الإسلامي حركة تنوير وازدهار. ففي أيامه عاش ومات الكثير من المشاهير والأعلام أبرزهم: البخاري، ومسلم، وأبوداود، والترمزي، وابن ماجه، وداود الظاهري (مؤسس المذهب الظاهري الذي تبناه ابن حزم في الأندلس) وابن مخلد، وابن قتيبة، وأبوحاتم الرازي (غير الرازي الملحد) وغيرهم من علماء وقضاة وأهل حديث وفقه ورجال دولة.

مات المعتمد ليرثه المعتضد الذي بويع له في سنة 279 هجرية. فالمعتضد كان مثل عمه المعتمد يتميز بخصال كثيرة منها الشجاعة والجبروت ورجاحة العقل وشدة الوطأة (قليل الرحمة) مع الخصوم.

ظروف المعتضد تشبه كثيرا ظروف المعتمد، فهو ورث دولة قوية مركزيا ولكنها تعاني من اضطرابات في الأطراف وأحيانا من مشكلات بنيوية بسبب سياسات متراكمة تزاحمت كلها؛ لتنفجر في فترات متقاربة اضطر خلالها إلى استخدام البطش لمنع تفكك الخلافة وانهيارها.

المعتمد حارب الزنج وهزمهم وانفجرت في عهده سلسلة انقسامات وانشقاقات في اليمن والمغرب ومصر وكان عليه أن يحارب القرامطة بعد ظهورهم في الكوفة. وجاء المعتضد ليسير في السياسة المفروضة عليه فاضطر إلى استخدام كل الوسائل الممكنة والمتاحة حتى يعيد الاستقرار إلى دولة الخلافة.

وصف المؤرخون المعتضد بالسفاح الثاني نظرا إلى ما فعله بخصومه. كذلك وصفه المؤرخون بأنه مجدد ملك «بني العباس» نظرا إلى ما حققه من إنجازات سياسية في فترة امتدت عشر سنوات متواصلة.

في هذه الفترة كان شيوخ المعتزلة قاعدين ينظرون حولهم ويتقولون أطروحات «أكل الدهر عليها وشرب» في وقت تجاوزهم الزمن وبات على أحدهم (شيخ من شيوخهم) أن يقف ويعلن صراحة موت المعتزلة. وهذا ما كان... بعد فترة من الزمان.

هذا ما حصل في ذلك الوقت. فالدولة نجحت في تجاوز مأزقها والنخبة المثقفة (المعتزلة آنذاك) انزوت تنظر حولها وتتفرج على حرق ونهب وتحطيم الناس والعمران. فهل يتكرر مشهد ما بعد «خراب البصرة» في أيامنا فتنهض دولة قوية وقادرة وعادلة أم تستكمل الأمة انهيارها وسط دائرة نيران ينظر إليها المثقفون في عصرنا لا يدرون ماذا يفعلون ويفعلون ما لا يدرون؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1750 - الخميس 21 يونيو 2007م الموافق 05 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:51 ص

      شكراً على المقالة الجميلة و المعلومات القيمة
      أحمد/العراق

اقرأ ايضاً