العدد 1751 - الجمعة 22 يونيو 2007م الموافق 06 جمادى الآخرة 1428هـ

البطيخ المعرفي والاستهلاك الطائفي!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

الوظيفة الطبيعية والأدوار الاجتماعية المرسومة فطريا للمثقف تتطلب منه أن يكون أحرص السباقين على ممارسة النقد لأوجه الخلل في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاشة، وفي الاشتراك بعملية التقدم الاجتماعي والدعوة إلى الإيفاء بالمتطلبات والحاجات النهضوية الأساسية، وتقديم الحلول الجذرية للأزمات والإشكالات، وترويج الأفكار الإصلاحية والنهضوية الجديدة طالما لم يكن هذا المثقف قد تم ثقفه جيدا بوصال خيول السلطة وسقط متاعها اللامع أو بنفاق اجتماعي سياسي راهن لرموز وقيادات وتيارات مجتمعية متألق فيضها، فالمثقف منوط به أن يكون أول المنددين بالعوائق المجتمعية الفكرية والتنظيمية التي تحول دون تحقيق أحلام التقدم وتهيض أجنحة النهضة، وإن اقتضى منه ذلك أن يتعامل معها بحكمة وهدوء ورزانة الطبيب، أكان طبيب أسنان أم طبيب أمراض الجهاز الهضمي!

ولكن ما لا يسر حال أي فرد من أفراد المجتمع، وفي ظل تنامي النعرات الطائفية والانقسامية في مشهدنا الاجتماعي والسياسي المحلي والإقليمي، وسيرا قد لا يكون بالضرورة متماهيا ومتعاشقا مع مخططات واستراتيجيات التشطير العمودي للمجتمع، هو أن يظهر لنا البعض ممن يمكن أن نصنفه أوليا، ونسجل حضوره الفريد اجتماعيا كـتجسيد حي لنموذج «المثقف الطائفي» الذي مثلما نجح كثيرا في استيعاب معظم المفاهيم والنظريات الكبرى في مجال العلوم والمعارف الإنسانية الحديثة وليدة المنشأ الحضاري الغربي، وتشرب حد الثمالة معانيها ودلالاتها الجوهرية واللغوية إلا أنه ظل على رغم ذلك أسيرا للحاضنة الاجتماعية الطائفية المغلقة ذاتها، وبات على رغم حداثته المعرفية متلونا بحربائية اجتماعية سياسية، وبألوان رجعية طائفية تسوق أطروحاته ودعواه الرسولية النهضوية، وبالتالي عاجزا عن التحرر من ربقة الأغلال والأطر المرجعية الطائفية المقدسة التي فيما يبدو لا فكاك منها مهما تشربت وارتوت خلايا الوعاء «النخبوي» من مناهل المعرفة الحديثة ومن أنوارها ومبادئها وقيمها التقدمية، فهذه الخلايا النخبوية المتراصة ربما أضحت كالسمكة الجميلة السابحة في ماء طائفي لا خلاص من إساره البيولوجي وما سواه الفناء!

وتجد هذا المثقف والنخبوي الرجعي المتلون طائفيا واجتماعيا يسلك مسلكا أشبه فيه ما يكون بــ «الخيميائي» الغابر وذلك حينما يحول بمعادلات كيميائية مختلف العناصر المعرفية المتفاوتة نوعا وقيمة إلى ذهب طائفي آسر، أو هو ينتقي من كل بستان زهرة يكلل به رأس هذا الشارع الطائفي، ويجمع من أصداف ومحار البحار بقدر ما تسعفه قرائحه وملكاته وطاقاته البحثية عسى أن يتوج مجد الطائفة والجماعة بالدر المعرفي الثمين!

ومهما تكن الأسباب من الوقوع في ذلك الفعل المبطن بالرجعية والمرتكس اجتماعيا على رغم أغلفته وأصباغه المعرفية والإنسانية الحديثة، فإنه يعني بلا شك فشلا ذريعا لهذا المثقف وابتعادا عن وظيفته التحررية، ومغادرة مبكرة لدوره السبّاق نهضويا، ونحن نتمنى بلا شك النجاح في النهاية والشفاء من أمراض وهموم الانحباس في أضيق المغاليق والأطر الطائفية الاجتماعية، كما أننا نود أن نكون مخطئين في أحكامنا التي قد تكون هي الأخرى مبللة بالماء الطائفي ذاته الذي يغلف وجودنا الاجتماعي المشترك، والذي من دونه قد نصاب حتما بالاختناق والتعطل الاجتماعي والسياسي الوظائفي!

فقد يكون هذا النموذج من المثقفين وأشباهه خاضعا لحاجة ماسة للخضوع المهذب لقوانين الحراك الاجتماعي والسياسي المعمول بها محليا وإقليميا، فلن يستطيع تسويق وتسويغ اطلاعاته وأفكاره وغنائمه من بحور الأركيولوجيا والسوسيولوجيا والانثروبولوجيا والسيكولوجيا حتى البيلوجيا والجيولوجيا والباراسكيولوجيا على مستوى شعبي عريض من دون أن يصطنع بها فخرا واعتزازا ذو شأن وشجن طائفي ضيق، أو أن يصوغها لتخدم أجندة ومصالح ورؤى طائفية معينة!

ولا يمكن أن تستنطق اجتماعيا أرواح «نيتشه» و»فوكو» و»ماكس فيبر» و»كارل ماركس» وغيرهم من فلاسفة ومفكرين وعلماء من دون أن يتم إلباسهم «عمامة» أو «ثوب قصير» أو «بشت»، ويتم إظهارهم في هيئة «ملاية» أو «إمطوع» أو «شيخ طريقة» وغيرها من ألبسة وأردية دينية قد تتناسق وتتموضع طائفيا واجتماعيا!

ومثلما يعد مثل هذا التمظهر والتجسد النرجسي الطائفي للبنيان المعرفي بوساطة نخبوية متلونة اجتماعيا بمثابة الفشل الذريع والإفلاس المستتر للمثقف الذي يحول بينه وبين وظيفته الحقيقية ويقزم من شأنه إلى أقل المستويات، كما هو خيانة غير معلنة لإنسانية المعرفة، وفساحة حقولها، ورحابة آفاقها الكونية ركضا خلف خيار استزلام طائفي ونفاق اجتماعي سياسي يسبغ بالمصيرية والوجودية!

وفي مثل ذات الصدد لا تتعجب عزيزي القارئ إذا ما غاب يوما عنك التفكير وأصيب المراقبون بعمى الألوان، والذي قد يصبح حينها حالة صحية، وذلك في التفريق بين نموذج لمثقف غوغائي «إسلامو - قومجي» يرفع باعتزاز وثني من شأن طائفته من دون الطوائف الأخرى، وباحث أكاديمي تبدو عليه سمات الرزانة والهدوء يفلسف الوجود والمصير والذاكرة الطائفية، وآخر متأمرك حداثي يطل متأخرا في زمن ما بعد الحداثة يستنهض الطوائف ومثقفيها ونخبها لعقد تحالفات استراتيجية ورسم ضمانات مع القوة الإمبريالية والقطب الأوحد، فجميعهم في القيمة الاجتماعية للمعرفة سواء، وإن اختلفت بينهم الطبائع السلوكية والدرجات العلمية التي تنصهر بنيران الاستهلاك الطائفي للبطيخ المعرفي!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1751 - الجمعة 22 يونيو 2007م الموافق 06 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً