العدد 1759 - السبت 30 يونيو 2007م الموافق 14 جمادى الآخرة 1428هـ

عندما يكون المواطن «قاصرا» وتتنصل البلد من مسئوليتها!

رجلٌ أجهدته السنون، وتقاذفته وابنته الهموم يمنة ويسرى، حتى أصبحا مشتتين عن بعضهما بعضا، لا يجمعهما مسكن واحد، وإن أرادا اللقاء فالمصادفة أو الشارع يجمعهما!

تبدأ حكاية هذا الرجل عندما ابتلاه الله بالقصور العقلي، إذ بدأ حياته وشب على العصبية وبعض الأمراض النفسية إلى أن ساءت حالته... فتنكرت الأمومة القاسية له، حتى اضطر إلى الخروج من المنزل دونما عودة. وأصبحت بساتين القرى وطرقات البلد مسكنه الوحيد، يجوبها ليل نهار، ويستريح فيها إذا ما أجهده التعب!

مرت السنون والأيام ليتزوج ويرزق بابنة، ثم شاءت الأقدار أن ينفصل عن زوجته لحالته النفسية التي وصل إليها... حينها تربت ابنته بعيدا عنه، لتكبر في بيت زوج أمها، وتعاني من الويلات والمصائب ما عانت... فكرت أن تذهب هذه الابنة - بعدما كبرت - مع عمها وأبيها إلى إدارة أموال القاصرين، لمحاولة شراء منزل بسيط يضم الأب وابنته، إذ كانت أسعار المنازل في تلك الفترة أقل بكثير وكان بالإمكان شراء منزل لهما، وفعلا تم العثور على منزل بسعر مناسب جدا، إلا أن المفاجأة كانت عندما وصلوا إلى تلك الإدارة، إذ قام الموظفون هناك بسؤال الاب إن كان يرغب في شراء المنزل أم لا، فكانت إجابته بالنفي! فقال الموظفون هناك: «إذا لا نستطيع أن نفعل لكم شيئا أو أن نعطيكم الأموال مادام هو نفسه لا يرغب في السكن؟!».

أيعقل أن يأخذ كلام «المجنون» على محمل الجد؟! كيف لمثله يتخذ قرارا عن نفسه وهو لا يعلم شيئا عن نفسه؟! أو يترك هكذا يهيم في أرض الله وتُشتت ابنته؟!

عشرون عاما - أو ما يزيد - تمر ويبقى الحال هكذا، يتيه الاب بين دواليب القرى والطرقات، وتبقى ابنته تطرق الأبواب وتجوب هي الأخرى الطرقات بحثا عما يكفل لهما حياة أبسط، أسسها كرامتها التي صارت تهان بالطلب من هذا وذاك! ما اضطرها إلى قبول الزواج حينها من أي خاطب يتقدم إليها أملا في الحصول على مسكن يضمها ويحميها من ضيم الزمان وجوره. وشاء الله أن تنفصل هي الأخرى عن هذا الزوج الذي لم يراعِ الله فيها ولا في ابنيها، إذ كان لا يدري بهم لأيام طويلة تمر.

إلى من تعود هذه الأم ، إلى أبيها الذي لا يملك سكنا يضمه، أم بيت زوج أمها لتعاني مرة أخرى، وتعيش في ضيق وألم من جديد؟! قد يكون الثاني هو الأنسب لامرأة تحمل معها طفلين ولا تجد من يعولهما! ولا أبٍ تدري عنه حتى يمكنه أن يحمي ابنته!

فكرت أن تلجأ الابنة التي اصبحت أما حينها إلى وزارة الإسكان علها تجد ما يلم شملها هي وابنيها ووالدها العاجز، وخصوصا أن ظروف زوج أمها صعبة للغاية ولا يمكنه أن يعول عائلة أخرى أيضا، فما كان من الوزارة إلا أن ردت عليها بعدم استطاعة توفير السكن لها، لأنها لا تعمل... وهي مطلقة!

سنون تمر، ونحن لا نعلم عن الاب شيئا، فهو يقضي حياته في التنقل من «دولاب» إلى آخر، إلى أن جاء اتصال إلى أخ الاب من أحدهم يخبره بأن أخيه يرقد في أحد أجنحة مجمع السلمانية الطبي، فاتجه أخوه مصطحبا معه ابنة أخيه، وأخذا يجوبان أروقة المستشفى حتى وجدوه! حينها نزلت تلك الأسئلة على رأس الاثنين كالسيل الجارف، فمنهم من يسألهم أينكم عنه طيلة الفترة الماضية؟ وكيف تتركون أخيكم هكذا دونما رعاية؟

لبث الاب في المستشفى شهرا، وهو يسمع بين الفينة والأخرى من موظفي المستشفى كلاما مفاده بأنهم ملوا من خدمته، وأنهم غير مستعدين لتحمل مسئوليته أكثر!

تحسنت بعد فترة حال الاب، وتم إخراجه من المستشفى لفترة بسيطة، إذ ما لبث أن تعرض لوعكة صحية أخرى، أدخلته من جديد إلى المستشفى، وكان حري به أن يبقى تحت إشرافهم ومتابعتهم حتى يتأكدوا من شفائه تماما .

هذه المرة، أخذت إحدى الباحثات الاجتماعيات تلوم الابنة وعمها، وأخذت تصر على أن يأخذ أحدهما الاب معه إلى المنزل... حاول الاثنان أن يوضحا إليها ظروف كل منهما الصعبة، التي لا يمكن معها أن يأخذ أي منهما الاب معه، ومع ذلك حاول أخوه مسبقا أن يضمه في منزله ولكن الاب لم يقبل.

في هذه الفترة، تواصل العم مع دور المسنين، لعلهم يجدون له مستقرا عندهم... بداية تم التجاوب معه، ووجدوا له سريرا في أحد تلك الدور، وقالت إحدى المسئولات هناك إنها ستزور الاب في مجمع السلمانية لترى وضعه، وبعد ذلك تقرر متى يمكنهم نقله إلى هناك، وخصوصا أن كل الوثائق تثبت ظروفه وحاجته – بعدما كبر في السن – إلى مكان يضمه، وإلى من يتكفل به. ولكن أخيه نبههم بأن عليهم أن يصطحبوه هو أو ابنته معهم إن أرادوا الذهاب إلى المستشفى لزيارة الاب، فهو لن يتقبل الكلام من الآخرين وخصوصا إذا ما ذكروا أمامه دار المسنين، ونيتهم نقله إلى هناك!

تلك المسئولة – تجاهلت الأمر – وذهبت بمفردها لترى حال الاب، وأخبرته بأنهم من دار المسنين وأنهم ينوون نقله إلى هناك، فما كان منه إلا أن صرخ في وجههم، وقال: «أنا أملك بيتا وأملك أموالا، فلا تأخذوني إلى دار المسنين! فصدقت المسئولة حديثه، واتصلت بابنته وقالت لها «إنه يملك بيتا وأموالا... إذا لا يمكننا أخذه»!

على من يكون العتب الآن؟! هل يتم تصديق مجنون، وهناك أوراق تثبت حالته هذه؟!

وإضافة إلى ذلك بعدما توجه العم إلى دار المسنين ذلك، وخاطبهم مرة أخرى قالوا إنهم سيتكفلون بالأمر من جديد ويحاولون الترتيب مع دار مسنين آخر، وانتظرهم لأيام ثم خاطبهم مجددا، فإذا بهم يقولون إنهم لم يحركوا ساكنا، وكل ما يعرفونه هو أنه يوجد سرير شاغر في دار مسنين آخر، ولكنهم لا يستطيعون أن يستقبلوا أي مسن دونما معرفة سجله الطبي. وسألهم عما إذا كانوا قد تواصلوا مع المستشفى، فأجابوا بالنفي أيضا!

ألم يكن من المفترض – على الأقل – أن يبلغوا أهله بالأمر كي يتصرفوا هم في أسرع وقت ممكن؟! لم هذا الإهمال في التعامل مع قضايا كهذه؟!

أخذت الاتصالات تنهال يوما بعد الآخر على ابنته وعمها، يطالبونهما فيها بأن يأخذوه إلى أحد المنزلين، إلى أن تفاجأت الابنة في أحد الأيام بطرق على بابها، فتحته وإذا بتلك المشرفة الاجتماعية في مجمع السلمانية تقف على الباب ومعها الاب، وتصر على ابنته أن تأخذ أبيها!... زاد ألمها وحزنها، فمن لا يريد أن يكون بارا بأبيه، وخصوصا وهو يعيش في ظروف كهذه، ولكن تلك المشرفة كانت تجرحها بالكلمات عندما قالت لها: «اتقِ الله في أبيك وخذيه عندكِ!»، فقالت لها تفضلي ادخلي المنزل وانظري إلى حالنا، إن كان يستحمل أن يكون فيه ساكن إضافي! أتظنين أن قلبي لا يتقطع على أبي وأنا أرى حاله هكذا، أو تحسبين بأني ابنة عاقة؟! لو كان لي منزل لما توانيت لحظة أن أحتضن أبي فيه وأخدمه ليل نهار من دون كلل أو ملل»... أبدت المشرفة شيئا من التأثر، ثم قالت لها: «إن لم تأخذي والدكِ سنتركه في الشارع ونذهب!» فأردفت الابنة: «إن فعلتِ ذلك سيحدث ما لا تحمد عقباه... وسأرفع عليكم قضية، ألا تملكين الرحمة بإلقاء رجل مسن في الشارع وهو بحالٍ كهذه؟!».

حينها حاولت المشرفة أن تغير مسار الحديث وقالت: «أعطني إذا عنوان منزل عمكِ لنأخذه إلى هناك»... وما هي إلى دقائق معدودة، وإذا الاب يقف أمام منزل أخيه، والمشرفة تترجل من السيارة، وتطرق الباب لتطلب من زوجة العم أن تستقبله، فما كان من تلك إلا أن قبلته برحابة صدر – على رغم ضيق المنزل وعدم توافر المكان المناسب لرعاية الاب – وهذا ما شرحه لهم العم في المرات السابقة، وقال لهم: «لو كان لدي مكان مناسب في المنزل لما تركت أخي لحظة مشتتا هنا وهناك!».

بقي الاب أياما قليلة في منزل أخيه، حتى ساءت في أحد الليالي حاله، حاول أخيه وأبناؤه رعاية العم، ولكن كانت الحال تسوء أكثر وأكثر، إلى أن اتصلوا بالإسعاف، إذ كان جبينه يتصبب عرقا، ودقات قلبه تتسارع، وبدا عليه بأنه قد شارف على أن يودع الدنيا. وصل الإسعاف، وباشروا عملهم – بعد أسئلة واستغراب من عدم معرفة العائلة بجميع المعلومات عن الاب. أويجب على أولئك أن يعيدوا سرد القصة من جديد في كل مرة يصادفون فيها أحدهم؟!

أُخذ الاب إلى المستشفى، وبقي حتى هذه اللحظة يرزح في قسم الطوارئ ، قائلين إنهم لا يملكون له سريرا! فهل عندما يتماثل إلى الشفاء ستعود المأساة مجددا، لتتكرر الحوادث من جديد، أو أن يلقوه في الشارع؟! ألا يجب على الدولة أن توفر الرعاية الصحية لرجل مسن يعيش ظروفا مثله؟! أيبقى على ابنته عندما تريد الاطمئنان على والدها أن تبحث في الشوارع والأزقة عن أبيها لتعرف أخباره؟!

(الاسم والعنوان لدى المحرر)

العدد 1759 - السبت 30 يونيو 2007م الموافق 14 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً