العدد 1782 - الإثنين 23 يوليو 2007م الموافق 08 رجب 1428هـ

التجربة التركية... ودروسها السياسية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

فاز أمس حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي بغالبية معقولة من المقاعد البرلمانية في الانتخابات التركية. فالحزب الإسلامي نال أعلى نسبة من الأصوات وهذا ما يعطيه فرصة لتشكيل حكومة تسمح له بالتحرك من دون قيود دستورية تعطل عليه خياراته السياسية الكبرى.

الفوز الانتخابي لا يعني دائما النجاح في تنفيذ استراتيجية عامة تحتاج إلى آليات مختلفة ومتوازنة. فالدولة التركية تعتمد في دستورها الاتاتوركي (الجمهوري العلماني) على مجموعة قواعد تشكل قوة ضغط على الشارع تمنع الفائزين من استكمال خطة مشروعهم في تغيير شخصية البلد. ولهذا السبب أعلن رئيس الحكومة الفائز رجب طيب أردوغان أن حزبه سيحترم دستور الدولة الجمهوري العلماني وسيعمل على متابعة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لضم تركيا إلى تلك القارة.

تصريح أردوغان جاء لتطمين قيادة المؤسسة العسكرية حتى لا تستفز وتتحرك باتجاه تلغي نتائج الانتخابات التي أوضحت مدى رغبة الشارع في تعديل التوجه الأوروبي - العلماني الذي تأسس على قاعدة الاستبداد السياسي وفرض هوية على الناس بأسلوب فوقي وقهري. إلا أن التصريح أيضا يعكس مأزق القوى السياسية التي تحمل توجهات إسلامية. فالقوى المذكورة التي يقودها الآن حزب «العدالة والتنمية» موضوعية وواقعية في تفكيرها السياسي وحتى في أسلوب تعاملها مع دولة تعتبر نفسها «محمية» من المتغيرات التي تمس جوهر دستورها. فأردوغان يدرك أن الفوز في الانتخابات بغالبية نسبية من الأصوات لا يعني النجاح في تعديل خريطة التوازن والبدء في تأسيس دولة جديدة ومغايرة للتوجهات السالفة.

المخالفة الجذرية تحتاج إلى موازين قوى مختلفة. والفوز النسبي في الأصوات يعطي أفضلية للحزب الإسلامي في تشكيل حكومة منفردة تستند الى غالبية نسبية في مقاعد البرلمان، إلا أنه ليس كافيا لاتخاذ قرارات جذرية تحسم خيارات تركيا الاستراتيجية وتعيد تشكيل هويتها التي باتت شبه منقسمة بين توجهين ورؤيتين. فالحزب الإسلامي لا يستطيع أن يتجاهل الدستور (الجمهوري العلماني) وكذلك لا يستطيع أن يسقط من حساباته السياسية موقع الجيش في الدولة والصلاحيات الاستثنائية التي يتمتع بها لدرجة أنها تعطيه الحق بالتدخل (الانقلاب) في حال قرأ المسألة من زاوية وجود خطر على الدولة ودستورها.

إضافة إلى العقبتين (الدستور والجيش) هناك مشكلة التعامل مع خيارات نسبة لا بأس بها من الناخبين أعطت أصواتها لقوى سياسية مناهضة للتوجهات الإسلامية ومتشددة في نزعتها العلمانية أو متطرفة في وعيها القومي (الأناضولي). فهذه المجموعات الصغيرة التي توزعت نسبة لا تقل عن 50 في المئة من أصوات الناخبين تشكل قوة ضغط على حكومة أردوغان وتمنع عنه التفرد أو الانفراد في أخذ الدولة كلها نحو مواقع لا تنسجم مع روحية الدستور ونزعة التطرف القومي/ العلماني.

لهذا السبب ربما واحتراما لمجموع تلك المشاعر والمخاوف أعلن الحزب الفائز التزامه بالدستور (الجمهوري العلماني) وتوجه تركيا نحو أوروبا. فالحزب الإسلامي يدرك سلفا أن أية خطوة ناقصة وغير مدروسة تعطي ذريعة للجيش وتشجعه على الانقلاب مستفيدا من تلك النسبة من الأصوات التي نالتها تجمعات سياسية صغيرة ولكنها تعادل في مجموعها نصف المجتمع.

هذا التوازن المفروض بالقوة دفع أردوغان إلى إلقاء خطاب «تسووي» أو «وسطي» يجمع بين حداثة الدولة وحداثة المجتمع. فالحزب الإسلامي في النهاية قوة سياسية حديثة وهو نتاج حداثة مأزومة أنتجت سلسلة انشطارات آيديولوجية توزعت على مراكز قوى تقرأ أزمة الهوية من منظار مضاد للآخر. وهذا الاختلاف في رؤية مأزق الحداثة يمكن القياس عليه في الكثير من الدول العربية والإسلامية. فهناك عشرات الأمثلة في مصر وسورية والسودان وتونس والجزائر وإيران وباكستان وماليزيا تمر في حالات انكسارية مشابهة لتلك الصورة التي ظهرت فيها تركيا في الفترة الأخيرة.

حركة حديثة

حزب «العدالة والتنمية» حركة إسلامية حديثة وهو نتاج مأزق الحاضر ولم يتشكل من الماضي. كذلك يمكن قراءة كل الحركات السياسية الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي. فهذه الأحزاب في إطارها العام هي نتاج حداثة مأزومة أنتجت توجهات آيديولوجية تقرأ الماضي كقوة راهنة تفعل فعلها في الحاضر. ولكن الفارق بين تركيا الاتاتوركية وبعض الدول العربية والإسلامية أن الأولى اختارت بعد مشقة وصعوبات طريق المصالحة بين المجتمع والدولة بينما النماذج العربية (التي تأثرت سابقا بالتجربة الاتاتوركية) لاتزال مصرة على انتهاج طريق القطع مع المجتمع والانقلاب عليه ومصادرة حقه في الانتخاب والاختيار.

النموذج التركي الآن وفي الصيغة التي يتوقع أن يظهر عليها، إذا استقرت العلاقة بين مصالح الدولة وهوية المجتمع، سيكون من الأمثلة السياسية الجديدة في ملامح صورتها المركبة من عناصر غير موحدة أو متجانسة في مصادرها ومنابتها. وهذا الاختلاف لا يعني بالضرورة الذهاب نحو الانقسام أو الانقلاب كخيار وحيد وإنما يمكن أن يعني أيضا احتمال تأكيد المصالحة التاريخية وتكريس تسوية بين قوتين أو توجهين.

خطاب أردوغان بشأن تمسك الحزب الإسلامي بالدستور الجمهوري العلماني والتوجه الأوروبي شكل رسالة تطمين للمعارضة ومؤسسة الجيش ولكنه أيضا يعتبر خطوة نحو مصالحة (تسوية) تاريخية نحتاج إليها في منطقتنا العربية/ الإسلامية. فالحزب الإسلامي بعد فوزه بالانتخابات لم يعلن النصر على العلمانية ولم يؤكد هزيمة الاتاتوركية وإنما طرح إمكانات تسوية تاريخية تتجاوب مع حاجات مرحلة اجتماعية انتقالية تطرح الكثير من الالتباسات الايديولوجية المتنافرة في مصادرها ومنابتها. وهذا الأمر يدل على وجود وعي تاريخي متقدم في رؤية الحزب الإسلامي (العدالة والتنمية) للواقع التركي وتداخل مشكلاته بين طورين أحدهما تقوده الدولة (الاتاتوركية) والآخر يعيشه مجتمع متأزم الهوية وضائع في خياراته القومية والاجتماعية.

الحل إذا لهذا المأزق الحداثي هو الذهاب نحو «السلم الأهلي» ومنع عناصر الأزمة من الانفجار. ومثل هذه الرسالة الواعية في رؤيتها التاريخية قد تصلح أن تتحول إلى نموذج للتسوية في المنطقة العربية بين دول علمانية ومجتمعات مسلمة. فالسلم الأهلي هو الخيار التاريخي بدلا من المقاطعة والقطع مع مجتمع تحتاجه الدولة لإعادة بناء مشروعها.

مشكلة الحداثة في المنطقة العربية تكمن في الدولة وعدم قدرتها على تشكيل مؤسسات متوازنة تعطي المجتمع الأهلي فرصته للتعبير عن نفسه من دون مطاردة أو مصادرة. وهذه المشكلة تفسر إلى حد كبير مأزق التحديث الذي وصلت إليه الكثير من الدول العربية من دون أن تخطط لفكرة المصالحة مع المجتمع. وهذا النوع من التحديث المعزول عن الناس وشبكاتهم الأهلية أوصل الدولة إلى حائط مسدود والناس إلى حلول مقفلة شجعت الشباب للتوجه نحو التطرف.

التطرف الإسلامي في المنطقة العربية الإسلامية هو نتاج عزلة تاريخية أسستها حداثات دول اعتمدت السلوك الأتاتوركي في التعامل مع الجماعات الأهلية. هذا السلوك الأتاتوركي وصل في تركيا إلى حال من التأزم فرض على الدولة الانفتاح على المجتمع والقبول بخياراته الأهلية المضادة حتى لا ينهار النموذج ويتفكك سياسيا. وشكل هذا الانفتاح مناسبة لإعادة ترتيب شخصية المجتمع بأسلوب سلمي يتعامل مع الواقع بموضوعية وعقلانية ومن دون غرور أو زهو. والخطاب الذي ألقاه أردوغان بعد فوز حزبه بالانتخابات يعطي فكرة موجزة عن بداية تشكل نموذج وسطي (تسووي) في تركيا يصلح أن تأخذ به بعض الدول العربية حتى تتجنب سياسة الملاحقات والمطاردات والاعتقالات وتمنع المجتمع من الذهاب إلى العزلة أو التطرف... وربما بعيدا عن «السلم الأهلي».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1782 - الإثنين 23 يوليو 2007م الموافق 08 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً