العدد 1784 - الأربعاء 25 يوليو 2007م الموافق 10 رجب 1428هـ

داخل وخارج ملحمة السراب...

عيون فانغا العمياء...

باتت أميركا تطمح بعدما أرهقتها وحشيتها البالغة إلى ترسيخ صورتها سلميا في رؤوس كل من ليسوا أميركيين، وإلى اجتذاب القلوب عن طريق تقديم الاعتذارات إلى الدول مثل إيران وغواتيمالا وتشيلي وغيرها، محققين بذلك المثل المصري الذي يقول: «تقتل القتيل وتمشي في جنازته»! والغريب كما يرى ايناسيو رامونيه أن هذ المشروع الامبريالي اللا إنساني يلقى المقاومة الأضعف في أوروبا الغربية ولهذا أسبابه السياسية كما يقول.

أما على المستوى الجيو - سياسي فإن الولايات المتحدة تتمتع بوضع مؤاتٍ لفرض الهيمنة لم تشهده أية دولة من قبل، فمن الناحية العسكرية هي تملك قوات كاسحة وليست القوة النووية والفضائية الأولى فحسب، بل القوة البحرية الأولى أيضا فهي الوحيدة تملك اسطولا حربيا في كل المحيطات والبحار الرئيسية على الكرة الأرضية، والوحيدة التي تحظى في جميع القارات بقواعدَ للأعمال العسكرية والإمداد والتنصت بطريقة نظام «اتشيلون» وهي الطريقة التي يتم فيها إنشاء محطات في أماكنَ عدة من العالم للتنصت على الاتصالات والموجات الصغيرة (المايكرواليف) والخليوي والألياف البصرية عبر 120 قمرا اصطناعيا وخصوصا أقمار «الأنتلسات» و «الإيمارسات» التي تؤمّن غالبية الاتصالات الهاتفية والإلكترونية في العالم.

بعد ذلك يُجرى تحليل هذه المعلومات في كمبيوترات وكالة الأمن القومي الأميركي المتطورة والتي تمتلك القدرة على تحليل ألف مليار وحدة رقمية كل 12 ساعة والقادرة على تعريف الصوت والرومز البصرية (نظام أو. سي. آر) بتسجيل هذه المعلومات ونسخها للتحليل لاحقا، ويقوم علماء متخصصون تابعون إلى أجهزة الاستخبارات في كل من «محطات التنصت» بتحليل أية مخابرة أو وثيقة.

ولا يقتصر نشاط «اتشيلون» على التجسس بواسطة الأقمار الصناعية بل الغواصات أيضا تعد وسيلة أكثر فاعلية لرصد الاتصالات عبر الكابلات البحرية. وتشكل بورصة نيويورك بارومتر العالم المالي - والتي تهز العالم واعتمادات صناديق التقاعد الأميركية المسيطرة بحجمها الهائل على الأسواق المالية - رعبا للدوائر الاقتصادية العالمية، كما أنها القوة الأولى في مجال التواصل الافتراضي.

أما على جبهة العلاقات الخارجية، فإن القوة الأميركية تتحكم في السياسة الدولية وتبقي عينها ساهرة على الأزمات في جميع القارات لأن لها مصالحَ في كل مكان، وتبقى الوحيدة القادرة على التصرف على مجمل الساحة العالمية، ولها دور حاسم على مستوى السلطات الدولية التي تحدد خياراتها مسيرة العالم في منظمة الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

وتنشئ الولايات المتحدة مستعينة بقدرتها في مجال المعلومات والتقنية بالتواطؤ الغافل من جانب المُهَيمَن عليهم ما يسمى «القمع الخفي» أو «الاستبداد المستلذ» ويقوم ذلك خصوصا على خلفية التحكم في الإنتاج الثقافي والسيطرة على مخيلتنا.

تغرق في منتهى البراعة أحلامنا بحشد من الأبطال المسوّقين إعلاميا ليكونوا أحصنة طروادة يزرعها السيد في أعماق عقولنا. وبعد أن صارت سيدة الرموز باتت تقدم نفسها إلينا بمظهر الساحر الدائم الفتنة ليتسلل إلى فكرنا ويلقحه بآراء ليست آراءنا عبر ما يقدمه إلينا من لهو متواصل وتسلية متلاحقة، فهو لم يعد يسعى إلى إخضاعنا بالقوة، بل بالترغيب وليس إصدار الأوامر بل رضانا الشخصي وليس التهديد بالعقاب بل المراهنة على تعطشنا إلى الملذات، ثم يبدأ قصف العقول بحسب فيليب تايلور.

هناك أفاعٍ سامة يزيد طول بعضها على خمسة أمتار تدعى كالاهاري تقوم بمحاصرة جحور طرائدها من القوارض عن طريق تحولها إلى حلقة مجوفة متعددة الطوابق تبقى فيها هذه الطرائد تحت سيطرتها فتعزلها عما حولها ثم تروح ترقب حركاتها وسكناتها وهي تنهار بالتدريج سيكولوجيا وسلوكيا؛ ما يكسبها لذة في الطعم وسهولة في الهضم وخفة الدم إلى أن يحين موعد ابتلاعها مع مرور الوقت، وقد استفاد سادة العولمة من هذه الأفاعي غير أن الاستفادة هذه المرة تتخذ شكل سياسات معلنة أو غير معلنة تمارسها، فالكبار لا يحبون الشعوب إلا حين تصبح مرمية على الأرض ولاسيما إذا كان التفرج على شقائها ممتعا.

ولكن لماذا صارت القرية هشة! والقرية في مسرحية «ملحمة السراب» هي الوطن العربي أو الدولة؟ هذا ما يوضحه بول شاؤول إذ يروي سبب هشاشتها؛ لأنها نهضت على الكلام والشعارات والانقلابات والدم والظلم وسقطت في الهزائم. إنها الدولة التي قتلت الفكرة القومية وأفرغت الفكرة التقدمية وشوهت المشاعر الإيمانية وعطلت الحيوية الشعبية وانتزعت الحرية الفردية وحوّلت الناس إلى أشباح تستعطي مستقبلها ومصيرها ونعمتها وحريتها، مثل هذه الدولة التي خلطت بين الآخر والدكتاتورية وبين سلامة الشعب وسلامة النظام وبين قوة النظام وضعف الكيان.

هذه الدولة ورثت ثقافة النهضة الغنية وكنوزها وخزائنها واحتمالاتها التغييرية وتعدديتها وامتداداتها الشعبية ففصلت دمها فلم يعد عندنا لا ثقافة نخبوية لأنها إما همشت النخبة وإما اشترتها وإما سجنتها وإما نفتها وإما عطلتها وإما أعدمتها ولم يعد عندنا ثقافة أهلية إذ حولتها إلى ثقافة فولكلورية وشعاراتية وجعلت أهل هذه الثقافة أرتالا من المغلوبين والمقموعين بل سيدت ما يسمى «ثقافة قبول هزائمها التاريخية» وتصويرها على أنها انتصارات تاريخية. قبول فشلها ومشروعاتها العشوائية وتصديرها إنجازات قبول كل شيء حتى الإذلال والغبن والإرهاب وتزوير الإرادات واغتيال الأحلام. ونحن نعيش منذ نصف قرن ثقافة القبول المعممة على كل المستويات.

* ناقد وكاتب ومخرج مسرحي

العدد 1784 - الأربعاء 25 يوليو 2007م الموافق 10 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً