العدد 1808 - السبت 18 أغسطس 2007م الموافق 04 شعبان 1428هـ

بوش و «تقرير سبتمبر»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل اقتراب موعد «تقرير سبتمبر» الذي سيقدمه السفير الأميركي في العراق ريان كروكر بالاشتراك مع قائد قوات الاحتلال الجنرال ديفيد بترايوس إلى الكونغرس لعرض واقع الحال في بلاد الرافدين، بدأت تتسرب معلومات صحافية وتصريحات مقتضبة بشأن أبرز فِقرات التقرير. فالإشارات توضح أن الوضع الأمني تحسن ولكن ليس بالشكل الذي توقعته الإدارة الأميركية من خطتها الأمنية وإضافة 30 ألف جندي على القوات العاملة هناك.

فكرة نصف نجاح ونصف فشل تعني سياسيا «لا غالب ولا مغلوب» وهي أيضا تعني «مناصفة» وتوزيع «الربح والخسارة» على مختلف الأطراف وتحميل المسئولية لجهات مجهولة ومعلومة بالوقوف وراء إجهاض «النموذج العراقي الديمقراطي» الذي وعدت واشنطن شعوب «الشرق الأوسط» بتأسيسه في بلاد الرافدين.

«لا غالب ولا مغلوب» فكرة لبنانية بامتياز يعتقد أن الذي اخترعها في العام 1958 الزعيم البيروتي الراحل صائب سلام بعد توقف الاقتتال الأهلي الذي دار في بلاد الأرز في صيف تلك السنة. الفكرة مبتكرة ومثّلت آنذاك جائزة ترضية للفريقين المسلم والمسيحي. وهي حاولت جاهدة إنقاذ بلد من الانهيار وتطمين كل الأطياف إلى أن الكيان السياسي سيبقى ولن تعبث الأطراف المحلية أو الإقليمية والدولية بتوازناته الأهلية. وهذا ما حصل فعلا.

إلا أن ما حصل في العراق بعد الغزو الأميركي ليس كذلك. فهناك فعلا متغيرات طرأت على بنية بلاد الرافدين السكانية. كذلك يرجح أن دولة العراق الواحدة لن تعود إلى سابق عهدها. فالخريطة تغيرت حتى لو حافظت «الجمهورية» على صورتها الجغرافية. الكيان تبدل من الداخل، وتوزع الطوائف والمذاهب أخذ مداه الحيوي وقارب خط التقسيم الفيدرالي، واحتمال نشوء فراغات أمنية مسألة غير مستبعدة، وترجيح نشوب حروب صغيرة لتقاسم النفوذ والحصص نقطة واردة في حال تواصلت التوترات الأهلية والتجاذبات الإقليمية.

«لا غالب ولا مغلوب» ربما تكون مشروع تسوية دولية/ إقليمية لإنهاء جوانبَ من الكارثة التي صنعتها الولايات المتحدة في العراق لاستدراج دول المنطقة ودفعها إلى اصطفافات تزعزع أمنها وأركانها. إلا أن الخاسر الأكبر على المستوى الإقليمي كان العراق لأن ما حصل عليه وفيه وضده يحتاج إلى ترميم يستغرق الوقت الطويل. كذلك لن تستطيع الولايات المتحدة بعد الآن الادعاء بقدراتها والافتخار بجبروتها العسكري لأن إدارتها اكتشفت بالملموس أن الفوز في المعارك الجوية وتحطيم البنى التحتية وتكسير الدولة لا يعني الانتصار السياسي في الميدان.

هناك خاسران في المعادلة. العراق (العرب عموما) خسر إقليميا وخرج إلى فترة طويلة من توازنات المنطقة وصراعاتها. والولايات المتحدة خسرت دوليا ولكنها نجحت في توليد كارثة هي نتاج استراتيجية التقويض التي اعتمدتها ضد المنطقة من أفغانستان حتى السودان.

يبقى السؤال: ماذا بعد تقرير سبتمبر؟ الإجابات كثيرة ولكن الترجيحات تميل إلى تأكيد وجود خطة انسحاب لقوات الاحتلال مع إشارات تثير مخاوف المصالح الأميركية العليا من الانهيار العام في منطقة استراتيجية وحيوية وغنية بالثروات الطبيعية.

خطة الانسحاب ستكون على رأس جدول أولويات التقرير وبعدها ستأتي ملحقات تتحدث عن تبعات وتداعيات. البقاء كما هو الحال الراهن كارثة ونتائجه السياسية غير مضمونة النجاح. والانسحاب الفوري خطأ لأنه سيضع المنطقة أمام احتمالات غير مرئية ميدانيا. التخويف إذا سيكون «الحل الوسط» بين استمرار الاحتلال والانسحاب الشامل والكامل والسريع. ومعادلة التخويف تعني وضع خطة انسحاب طويلة المدى تعتمد على تخفيف عدد قوات الاحتلال مع ضمان وجود قوة عسكرية تضبط الأمن بحدوده الدنيا وتمنع القوى الإقليمية من تقوية نفوذها الجغرافي والسكاني.

تخويف أعضاء الكونغرس من تبعات الانسحاب وتلك الملحقات التي يمكن تنشأ من حدوث فراغات أمنية قد تزعزع استقرار المنطقة وتهدد كياناتها فضلا عن أمن «إسرائيل» وحقول النفط، يرجح أن يكون المدخل الثاني لـ «تقرير سبتمبر» بعد الكلام عن نصف فشل وضرورة الانسحاب.

فكرة التخويف يمكن أن تتحوّل في الأسابيع والأشهر المقبلة إلى مادة نقاش في الصحف ومراكز الأبحاث؛ لأنها تنطلق من معايير «المصالح القومية» للولايات المتحدة وسياستها الدولية ومستقبل وجودها في منطقة غنية وحيوية تشكل نقطة توازن في معادلة القوة. وإثارة النقاش انطلاقا من مادة التخويف يمكن أن يعيد ترتيب أولويات السياسة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي باعتبار أن المصالح الأميركية معرضة للاهتزاز الأمني وربما السقوط السياسي والاستراتيجي.

غايات خبيثة

أمام هذه الحال، كيف يمكن أن تقرأ إدارة واشنطن مصير «الشرق الأوسط» في الفترة المقبلة؟ لا شك في أن الأولوية ستبقى للمصلحة والوسائل الضامنة لوجودها والكفيلة لاستمرارها. وهذا الشيء كان أساسا هو الدافع الحقيقي الذي اعتمده تيار «المحافظين الجدد» لتشجيع جورج بوش وتحريضه أيديولوجيا على منطقة «الشرق الأوسط». فالأهداف التي أعلنت العدالة والتنمية والإصلاح والديمقراطية والحرية وتمكين المرأة كانت في مجموعها كاذبة طرحت للخداع والتمويه.

الغاية كانت السيطرة على مداخل «الشرق الأوسط» ومخارجه واحتواء تلك الثروات الطبيعية الهائلة والتحكم في ممراتها وحقولها وأسعارها واستخدام مادتها الحيوية للضغط على قوى دولية منافسة في أوروبا أو صاعدة في آسيا. وأمام هذا الأمر الاستراتيجي البعيد المدى وجدت إدارة بوش أن هناك فرصة سانحة لها تستطيع استغلالها لتحقيق أغراض كبرى وهي تحتاج إلى قوة عظمى لحمايتها بعد أن أظهرت الوقائع الميدانية أن قدرات «إسرائيل» التقليدية (الوكيل الإقليمي) تراجعت ولم تعد قادرة كالسابق على حماية المصالح الأميركية.

ضعف «إسرائيل» الاستراتيجي شكّل العامل الثاني في تشجيع إدارة بوش على اتخاذ خطوة الهجوم الشامل على منطقة «الشرق الأوسط». فهذه الدولة المصطنعة في قلب المشرق العربي لعبت دورها الإقليمي في ترويض حركات التحرير ومشروعات التنمية وعطلت على الشعوب إمكانات التقدم الاجتماعي والتطور الاقتصادي. إلا أن دورها التقليدي أخذ يتراجع وكاد يصاب بالعطب بعد أن ظهرت عوارضه اللوجستية والديموغرافية خلال فترة احتلال لبنان في العام 1982. وازداد انكشاف أعطال هذه الدولة حين أعلن وقف الحرب العراقية - الإيرانية وظهور بغداد وطهران على الشاشة الإقليمية. فالحرب الدموية المدمرة أنتجت في الميدان قوات تملك مؤسسات وتجربة وقدرات على المواجهة وربما توجيه ضربات تحاصر النفوذ الإسرائيلي وتكسر تفوقه المطلق على دول المنطقة وجوارها.

منذ نهاية الثمانينات بدأت تظهر كتابات إسرائيلية تشجع على تقويض المنطقة وتفكيكها وشرذمتها إلى دويلات طوائف ومذاهب. وصدرت في هذا السياق سيناريوهات ترسيم الخطوط والفواصل بين الأكثريات والأقليات بقصد ترجيح كفة التدخل الخارجي وتوريطه في برنامج تعديل خرائط «الشرق الأوسط» السياسية.

الآن حصل ما حصل ولايزال مشروع التقويض الأميركي يشكل رافعة استراتيجية في سياسة واشنطن. ولكن الأمر الواقع فرض شروطه الميدانية وبدأ إعادة إنتاج سياسة غير واضحة تقوم على فكرة «لا غالب ولا مغلوب» وتعتمد أسلوب التخويف من الفراغات الآتية والمحتملة.

الغايات الأميركية الخبيثة لم تتغير، ولكن الوقائع الموضوعية أخذت تفرض شروطها على توجهات بوش الخارجية. وبما أن الغاية الأولى هي ضمان أمن النفط وتوابعه، والغاية الثانية ضمان أمن «إسرائيل» ودورها التقليدي وملحقاته فيرجح أن تكون السياسة الأميركية المقبلة غير بعيدة عن المصلحة القومية العامة التي ستحدد في النهاية سلوك الإدارة في الأشهر المتبقية من عهد بوش. فهل تنسحب قوات الاحتلال وتعيد ترميم الوكالة الإسرائيلية (المعتمد الإقليمي)؟ هذه احتمال مرجح. الاحتمالات الأخرى مفتوحة على ترجيحات منها توسيع الدور الإسرائيلي ونقله من موقع «الوكيل» إلى «الشريك»، ومنها تطوير الهجوم في إطار سياسة التقويض المبرمجة سلفا، ومنها أيضا الاكتفاء بهذا القدر من الدمار والبدء في توليد محاورَ إقليمية تؤسس معسكرات في إطار «حرب باردة» جديدة.

«تقرير سبتمبر» ليس بعيدا. والمعلومات التي تسربت منه تعترف بالفشل الجزئي وتثير الرعب من احتمالات سلبية في حال انسحبت قوات الاحتلال من بلاد الرافدين. من الآن حتى يقترب موعد نشر التقرير لابد من مراقبة تلك الفضاءات الدولية المشحونة بالتوتر سواء أكان على مستوى صفقات التسليح الروسية - الأميركية المتبادلة إقليميا أم على مستوى التحالفات الآسيوية - الروسية التي ظهرت علاماتها الميدانية في قمة «منظمة شانغهاي للتعاون» التي اختتمت أعمالها في مناورات عسكرية أجريت في جبال الأورال.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1808 - السبت 18 أغسطس 2007م الموافق 04 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً